قهوة أبو القعود

  البيت هو عشق أزلي قديم يطارد كل ساكن في كل حارة من الحارات ، بل هو همّ ورغبة مزمنة تلاحق كل إنسان يعيش في كل بقعة على وجه الأرض ، فالهم والقلق نتيجة كلفة مادية تحول دون تحقيق المطلب ، والرغبة أيضاً لها جوانبها المعنوية التي تجعله ينام  فاره الإحساس هانئ البال ، فلا مطالبات تلاحقه لدفع مستحقات إيجار متأخّر أو معاناة في جمع دفعة لإيجار متقدم .

   وكانت تلك الرغبة وذلك الهم في حارات جدة الأربعة وفي تفكير سكانها في ذلك الحين وفي تلك الظروف لا تنطلق من أهداف مادية تجارية أو ربحية كطموح الحصول على إيجار أو رغبة التخلص من التزام دفع إيجار شهري ، هذه الاحتمالات مستبعدة من تفكير رجال الجيل القديم كما أجمعت الآراء ، إنما هو تاريخ يسعى كل شخص من القادرين لأن يسجله لنفسه وينحت اسمه في سجل المدينة التاريخي وقائمة الأسر المعروفة بها.

   وهذا يتضح لنا اليوم جلياً ،  فبيوت المنطقة القديمة هي سجل تاريخي لجميع الأسر كبيرة كانت أو صغيرة غنية أو فقيرة عريقة أو منقطعة ، والسبب الرئيسي في كونها تسمى بأسماء أصحابها ، فيقال بيت نصيف أو بيت باعشن أو بيت الشربتلي أو نور ولي أو بيت قابل أو بيت بن حمد أو بيت باجنيد أو بيت باناجة .. ومعنى أن البيت يسمى باسم صاحبه أي أنه يمثل ذوقه في المظهر الخارجي ويعبر عن ثرائه إذا كان البيت ضخماً وجميلاً ومميزاً.

 وأول ما يستشهد الناس بالرجل في حياته وبعد مماته ببيته الذي تركه يذكّر الناس به ،  فهو بذلك قد ترك  أثراً خالداً وذكرى دائمة في نفس محبيه ومعارفه وأقربائه والأهم من ذلك أنه ترك موقعاً مناسباً لسكنى أسرته وأهله ، فيذهب هادئاً هانئاً دون عناء التفكير في هذا الجانب ، ومن أجله بذل ما بذل وأنفق ما أنفق ، فالبناء القديم يعتمد على اليد في العمل بل في كل خطوة من خطواته ومراحله.

وربما يكون هناك سبب آخر وراء الحرص على البناء وامتلاك بيت وهو أن مدينة جدة القديمة تكاد تكون مساحات البناء داخلها محدودة فلا تتجاوز عن كليو متراً ربعاً حتى عام 1947م وبذلك كان كل شخص يحرص على حجز مساحة لأسرته داخل المنطقة المحاطة بسور قديم  يحميها من التسلل حيث كانت الأبواب الأربعة للسور تقفل ليلاً ، فلا يتمكن أحداً من الدخول أو الخروج إلا من خلال هذه الأبواب.

تبدأ أول خطوة في تحقيق هذا الهدف بشراء قطعة الأرض وهي الأساس في قيام المشروع ، وبعدها يقوم الشخص بزيارة لمقهى يسمى ( قهوة أبو القعود ) التي يجتمع فيها المعلمون البناؤون يتبادلون الأحاديث وهموم ومعاناة مهنتهم وحكاياتهم ومشروعات كل منهم ومشاكلها وأوضاعها ، المعلمون تربطهم ببعض علاقات مهنية تحتم صداقتهم وارتباطهم ببعضهم البعض .

   ويبحث الشخص عند زيارته للمقهى الشعبي عن معلم بلدي يحقق له هذه الفكرة ويساعده المعلمون في النصح والإرشاد والتوجيه لمن يستطيع منهم التعاون معه ، فهم يعرفون أحوالهم المهنية والعملية ، فمعلم مثلاً مشغول ببناء أو ترميم أو إصلاح بيت بينما الآخر ليس لديه ارتباطات عملية ، ومن المناسب أن نشير هنا أيضاً أن لمعلمي النجّارة والنوارةّ قهوة  يتمركزون ويجتمعون فيها وهي قهوة  ( عزّي ) في سوق الندى .

    فالمعلمون عموماً ، سواءً بنائين أو نجارين أو نوارة يستمر عملهم من بعد صلاة الصبح وحتى صلاة المغرب ، بعدها يجتمعون في القهوة ليلاً يدخنون الشيشة ويشربون الشاي ويتبادلون أحاديثهم التي تربطهم بعشق المهنة وأسرارها .

   وإذا توصّل الشخص إلى اتفاق مع أحد المعلمين البنائين وشاوره حول أرضه التي يرغب بناءها ، يتم الاتفاق على تحديد الأجرة التي سيتقاضاها يومياً نظير عمله اليومي الذي يستمر من الصباح وحتى المغرب وغالباً ما يتحدد أجر المعلم يومياً بريال ونصف ، ومساعديه (الصنايعية) لا يتجاوز أجر كل واحد منهم ريال واحد والعمال نصف ريال.

 وهناك نظامان يتفق أهل الحجاز عليها إما المجاودة أو جوادة وتعني تحديد مبلغ مقطوع للعملية بأكملها  أو نظام الأجر اليومي ، ولم يكن  كبار المعلمين يقبلون بنظام الأجر اليومي لأن فيه دلالة توحي بقلة مكانة المعلم .

 بعد الاتفاق على الأجر ومعرفة المالك عدد العمال والصنايعية تتضح الصورة كاملة أمامه ، يذهب المالك والمعلم لرؤية الأرض المطلوب بناؤها ، فيراها المعلم ويضع بعض فرضياته المهنية وهو يرسم على الأرض بعصاه ويطلق عليها ( القِدّة )  أو تُعرف باسم الذراع المعماري ويساوي 24 قيراطاً أي ما يعادل ( 75 إلى 80سم  ) ، وهي تمثل وحدة قياس لتحديد المساحات الخاصة بالغرف والأسياب مخططاً حسب ما يراه مناسباً مثل تحديد الواجهة الأساسية للمبنى.

    والمعلم يصب جُل تركيزه لأن تكون واجهة البناية شمالية أو باتجاه الغرب ولهذا الإصرار بُعد نظر ورؤية مهنية ومستقبلية فهو يتطلع لتخفيف درجة حرارة البيت بإطلالته على هذه الجهات التي تستقبل الهواء المحبب للمدينة  وهذه الواجهات الشمالية والغربية ستجعل من السكن ممتعاً  لأن مخطط البناء في ذهن المعلم البلدي يتوقف عليها فتخصص لها النوافذ ذات الفتحات الكبيرة ويبالغ في مساحة الصالات أو الغرف المطلة على الواجهة لتدوير الهواء داخلها وداخل الغرف بأسلوب يكفل تحقيق هذه الوظيفة .

    أيضاً التركيز على جعل الواجهات الخلفية الجنوبية والشرقية أن تكون سميكة لمنع تسرب أشعة الشمس بأكبر قدر ممكن حفاظاً على البرودة الداخلية للمبنى حيث تطل الواجهات الخلفية على الحمامات والمطابخ والمخازن و ( بيت الدرج ) ، أما الواجهات الأمامية الغربية والشمالية تطل على الصوالين وغرف المبيت والمجالس العائلية .

   جميع هذه الافتراضات يستجمعها وهو يرسم ويخطط على الأرض بعصاه ، وهذا الاستحضار والرسم الافتراضي يعكس خبرته الطويلة ومقدرته الشخصية وبُعد نظره وفي ذات الوقت هو حريص على البدء والتنفيذ وإنهاء المشروع إلا أن هناك حُكماً خارجاً عن قوانين البناء البلدي يؤخّر سرعة التنفيذ ويؤجّل نهايته ، فإذا كان المشروع يستغرق من عامين إلى ثلاثة أعوام فإن المالك قد يتسبب في تأخير الانجاز لسنوات إذا تعثرت ظروفه المادية.

وغالباً ما يستفزّ هذا التوقف أفراد الفريق العمالي لأن الحياة تتوقف في عملهم ، و تقاليد المهنة تتطلب الإمهال والانتظار في حالة كهذه كثيراً ما تقف عائقاً في بناء البيوت ، ولو لم  يكن المعلم ورفاقه متواصلين مع صاحب البناية فستكون العلاقة منقطعة وبالتالي لن يتمكنوا من إتمام المبنى الذي بدأوا أول خطواته.

والهرم العمالي في البيت القديم يبدأ بالمعلم البلدي ، فهو رئيس فرقة البناء بالإضافة إلى دوره في عملية المقاولة ، وكان يسمى بالريّس وهو الصانع الماهر القادر على تعليم غيره فن الصنعة.

و يقوم المعلم البلدي بعملية البناء ورصّ الحجر للحصول على الشكل البنائي المطلوب ومهنته تحتاج إلى خبرة في العمل وقوة في الإدراك والفهم لا يصل إليها الشخص إلا بعد اجتياز عدة مراحل يثبت من خلالها قدرته المهنية الذوقية والإبداعية ويقف إلى جانب المعلم  مجموعة من المساعدين يُطلق عليهم ( الصنايعية ).

القرّاري يقوم بتحديد مقاسات وارتفاعات الحجر ونحت جوانبه وتحديده باستخدام آلة يدوية تسمى ( الشاحوطة ) حسب نوعية الحجر وحجمه ويتم قص الحجر وتهذيبه وتحديد مقاسه حسب رغبة المعلم بتسمية متفق عليها ، المروّج يقوم بحمل ونقل الحجر إلى المعلم بعد أن يتم نحته وتحديده وتهذيبه وغالباً ما يطمح المروج لأن يكون قرارياً بعد اكتساب الخبرة والمهارة ، الطيّان يحمل  الطين من المخلطة إلى المعلم ومهنته لا تحتاج إلى مهارة ودقة ، الخلاّط يُعد المخلطة بخلط الماء مع الطين المجلوب من بحر الطين ويقوم بعجنه وتليينه بالماء حتى لا ينشف ويقوم بتحميله للطيان ، المعلم البلدي الكبير هو رئيس هذا الفريق العمالي ويقوم بدورين المقاولة ورئاسة العمال كونه يعمل مع بقية العمال بنظام الأجر اليومي ، وهو مخطط المشروع والمسؤول الأول والأخير عنه ونجاح المشروع يُنسب إليه وفشله يُعلّق على سمعته ، فالمعلم هنا لا يخشى على شيء  أكثر من خشيته على سمعته وهي في المهنة رأس ماله الحقيقي.