مقدمة كتاب المعماريون في جدة القديمة

عجوز المدن حاضنة الماضي ..

أم عروس البحر الأحمر وليدة الأمس

 لقبها أبناؤها بعروس البحر الأحمر لأنها غيرت جلدها وجددت بشرتها وأعطت لنفسها ملامح جديدة ومنحت نفسها القدرة على التوسع والانطلاق..

   وأجمع المؤرخون والرحالة وكتّاب الأخبار على تسميتها بعجوز المدن فقد نزلت بها وعاشت جدة البشر حواء وسُميت بها نسبة إلى ارتباطها القديم ، هي في نظرهم كهلة عمّرت آلاف السنين بدءًا من نزول البشرية على الأرض ..

   هي معادلة غريبة الأطوار ، عجيبة القياسات لا تقوى على الإمساك بطرفيها غير مدينة جدة ، نظراً لحالة الوفاق والوئام فيما بين العروس بنت الأمس وشقيقتها العجوز التي احتوت صفحات الماضي وربطت قرون التاريخ .

   عجوز المدن ليست كبنت الأمس أو عروس البحر الأحمر وليدة الطفرة المادية التي جلبت جميع ملاح التطور والنمو السريع فترى فيها البيوت من فنون أوروبية وأمريكية ويابانية وهي حضارات حديثة ناسبت المدينة العروس من حيث زحفها نحو كل جديد وحديث ومتطور .

   إنما لا تزال تلك العجوز تقتات على جذور التاريخ الممتدة في حاراتها القديمة وحياتها التقليدية  وملامحها التراثية ، لأنها لا تزال تجمع صفحاته في بواباتها وعلى رؤوس مداخلها وفي قمم بناياتها ومن أطراف أزقتها وأمام برحاتها وبين فتحات رواشين بيوتها الصامدة وفي ساحاتها وأسواقها الشعبية.

فالعجوز ليست كالعروس بجميع القياسات والمقارنات ، ألوان العروس الصارخة وحركتها الصاخبة لا تجدها في العجوز أبداً ، لأن عمارتها التقليدية ليست مستوردة من الخارج وإنما جاءت من جبروت الحاجة إلى الشيء ، ولم تتوفر مئونة البناء بفعل القدرة المادية بل من محاكاة تجربة عميقة كلفت من عمر المدينة طويلا حتى  رسمت لها ملامح خاصة من واقع الظروف الحياتية والعوامل البيئية والمناخية ، وتولدت بذلك القدرة الإبداعية التي لا تحتاج إلى ألوان صارخة ولا إلى حركة صاخبة لتلفتك إليها ولا إلى أفكار أجنبية غريبة تجذبك نحوها.

   البناء القديم في جدة القديمة يعبر بصدق عن حياة المدينة وظروفها ومعاناتها ورحلة عمر طويلاً عاشه سكانها ومن مروا بها فحطوا رحالهم ونقلوا لها حضارات ومهن وصناعات وفنون حتى أُطلق عليها مدينة الألف مهنة ، فمن قدِم للحج دجّ فيها وارتزق كما يتردد فيها المثل الشعبي الشهير( حج وبيع سُبح ) .

    البناء القديم  مهنة من بين الألف مهنة كما جاء في المثل الشعبي ، بل ومهنة مشهودة بالأصالة والعراقة والقدم لأن المعلم البلدي كان من أبرز رجال المدينة في الماضي واليوم هو من عباقرتها بما تركه من لوحات إبداعية شكلت متحفاً هوائياً مفتوحاً لكل زائر يقرأ تاريخها ويستمتع بالتعرف على ملامح تراثها وحياة أهلها القدماء ويتمعّن في حفريات الماضي السحيق فيدرك من مهنة واحدة من بين الألف مهنة من هي المدينة ومن هم سكانها .

  الاختلاف بين العجوز والعروس لا يعكس فقط حالة من التغير بين الجديد والقديم .. الحديث والعتيق أو بين المستورد من الخارج والنابت في جذورنا حيث الهوية التاريخية والخصوصية الاجتماعية والثقافية ، هذا التباعد ليس وليد لحظة من التاريخ ولا حالة من التطور العصري لمجاراة ومواكبة رياح التقدم والتطور .. إنما بين الأصيل والمستورد من الخارج حيث السرعة وحداثة التشييد معتمدين على أفكار غربية وجديدة غيّبت مثلاً (الخارجة) كوحدة بناء متكيفة مع الظروف الاجتماعية وانتشرت البلكونات المباشرة للواجهات دون وظيفة حقيقية تذكر كونها طراز معماري حديث .

كان النقل للخارجي استيراداً صامتاً في كثير من الأحيان ولم ينطلق من تجربة الماضي في مقاومة الحجر المنقبي للظروف المناخية ودرجة الانسجام التلقائي بين الشبابيك والفتحات داخل المسكن محدثة تدويراً طبيعياً للهواء أو في نجاح الرواشين في استثمار واستغلال الواجهات للرياح المحببة من جانب ومن جانب آخر تتيح الرؤيا للخارج دون إعاقة الحركة داخل البيت.

   معماريو عروس البحر أو بنت الأمس كان غاية طموحهم سرعة التصميم والنقل لما هو حديث استيعاباً للطلب الكثيف واستجابةً لمرحلة الطفرة التي شهدها المجتمع دون بصمة معمارية أو إلقاء جانب للخصوصية التي هي أساس البناء ، وهذا من المؤكد منح جدة القديمة أو عجوز المدن ببناتها الأربع ، حارة المظلوم والبحر والشام واليمن هذا التفرد وهذه الأهمية والخصوصية الحياتية لمدينة مثلها حفلت بهذا التاريخ الممتد من بداية نزول البشرية وحتى وقتنا الحاضر.     

  وقد جمعت مادة هذا الكتاب واستقيت معظم ما ورد فيه من مصادر شفهية بالالتقاء المباشر مع معماريو الأمس ، وكان يُطلق عليه المعلم البلدي صانع هذه البيوت وأخص بالشكر هنا إدارة حماية المنطقة التاريخية بجدة حيث بادرت بدعوة المعمرين من المهنيين للمشاركة في إجراء الحوارات والظفر بهذه المعلومات الثمينة حيث استمر الحوار لفترة تزيد عن ثلاثة أعوام  بين تواصل وانقطاع حتى كانت المعلومات الخارجة من أفواههم تشكل أهم وأغلب ما ورد في هذا الكتاب بالإضافة إلى العودة إلى المراجع والمصادر المتاحة ، والمعلمين البلديين الذين أسهموا في تقديم معلومات هم : حسن محول و عيسى معتوق عبدالعاطي وإسماعيل عبدالعاطي ومصطفى عبدالدايم ومن النوّارة والنجّارة المعلم عبدالله محمود سمندرة وأحمد محمد مليباري وأحمد بخاري ومعلم نجار محمد محمد زاكر.

 بهذا أمنح هذه الشخصيات حقها الشرعي في الحديث عن مبانٍ تاريخية ساهموا وشاركوا في بنائها وتشييدها وترميمها ، وفي أن يبوح صانعها عن حياته وذكرياته وهمومه وقوانين وأعراف مهنته التي ترتبط بحياة الناس وتقاليد المجتمع الجداوي ، وحتى ظهور منافسة الإسمنت على أيدي المهندسين والصراع المصيري الذي أوجب انتصار أحد الطرفين على حساب الآخر.

   وقناعات كهذه ارتبطت بالناس عاطفياً ولم تتغير من تلقاء الظروف ، بل كانت حرباً بكل ما تعنيه الكلمة استمرت لفترة تزيد عن عشرين عاماً انتهت بهزيمة المعلم البلدي ومعه جميع أعوانه ومساعديه حين اقتنع الناس بجدوى الإسمنت كمادة حديثة وقوية للبناء  ، وطأطأت الهزيمة برأس المعلم أرضاً وسقط كبرياؤه وظل حتى يومنا هذا مُرمماً للبيوت الآيلة للسقوط ومعالجا لأعطابها وعيوبها.

   وقد مثلت هذه الحرب مرحلة جديدة لحياة المدينة وسكانها بعد هدم سورها تحديداً عام 1367 هـ من الحياة الشعبية البسيطة إلى الحياة المادية المعقدة ، من جدة القديمة عجوز المدن إلى جدة الجديدة عروس البحر ، من الحارات الشعبية والأزقة والممرات  إلى المخططات الشاسعة والشوارع الفسيحة والطرق الطويلة ، من بيوت الحجر وواجهات ذات شبابيك ورواشين خشبية إلى بيوت واجهاتها من زجاج ورخام ومرمر .

  أهمية هذا الكتاب تأتي في وقت انتهى فيه زمن البناء التقليدي الذي ظل شاهداً على عصور تطور هذه المدينة المعروفة ببوابة الحرمين الشريفين فهي مدخله الشهير ولُقبت أيضاً بدهليز الحرمين الشريفين فبها يحط الزائرون رحالهم حيث يطيب لهم المقام.