أولها نحات وآخرها شحات

   هذه المقولة كانت آخر كلمات تتردد في أفواه المعلمين بعد أن انقطعت بهم المسافات فأكون قد بدأت من حيث انتهوا وانطلقت من حيث توقف بهم المسير .. أولها نحات وآخرها شحات ..

  هذه المقولة التاريخية كان ولا يزال المعلم البلدي يسخر بها ، ويتذمّر عند إلقائها ويهذي بها في حديثه الشيق مطلقاً حالة السهد المكبوت في أنفاسه والهموم الغائرة  في أعماقه شارداً من عشقه  وهارباً من ذكرياته .

 وهذه الحالة من التذمر والسخرية والهذيان تعود للوضع المتردي الذي انتهى عليه فاقداً مكانته ومصدر رزقه بعد امتناع سكان المدينة عن البناء بأسلوبه التقليدي فلا أحداً يطرق بابه ، وقادته إبداعاته إلى الشحتة وفقدان كل شيء  ، شيّد البيوت الشامخة وهو في أوج مكانته وجلس متربعاً في أعالي  تلالها يراقب أي عاشق لها أو معجب بطريقة بنائها بعد أن أصبحت بيوت المدينة الإسمنتية من زجاج ورخام ومرمر وتحمل ألوان وأشكال وفنون أجنبية مستوردة من جميع قارات العالم .

  ولكن أجمل ما في البيوت القديمة هي ذكريات المعلم البلدي فيما لأنها مرتبطة بتاريخ المدينة ، لا يحتاج لقراءة ملامحه ومشاهدة أحداثه إلى تذاكر دخول أو مواعيد زيارة محددة نهاراً أو ليلاً .

 هذه الذكريات التي تركها المعلم البلدي في واجهات البيوت القديمة وزواياها ورواشينها لن يلغيها الزمن ولن تشوهها الشيخوخة مهما امتد بها العمر وتراكمت عليها السنون وتلاطم عليها الإهمال ، فقيمة هذه الرسومات الفنية تتزايد عاماً بعد عام ودلالاتها مع مرور الزمن تؤكد عراقتها وأصالتها وتعطيها أحقية الشهادة على الأزمان والأحقاب والحضارات التي مرّت على المدينة حتى تحقق هذا الانسجام في التواصل عبر التاريخ .

 هذه المقولة يرددها المعلم البلدي ورفاقه ساخراً أو متذمراً بعد رحيل سكان جدة الأصليين من الحارات  القديمة وهجرهم لبيوتها الحجرية جرياً وراء رياح الشمال السريعة وركضاً خلف أمواج التطور والحضارة الحديثة ، حتى ساءت بعدها أوضاعه وكسدت تجارته وليس له بعد ذلك من حيلة ولا سبيل غير ترديد مقولته .. أولها نحات وآخرها شحات..