تناول كتاب الأسطورة في مدينة جدة جانب من تاريخ الفكر الاجتماعي للأساطير التاريخية القديمة التي خلدت في تاريخ المدينة القديم وكان لها أثرها في حياة المجتمع على مر الأحقاب السالفة وما راج حول الأساطير القديمة من قصص وحكايات متوارثة على مر العصور والتي كان لها أثرها على السلوك الجمعي في كثير من الشؤون المرتبطة بحياة المجتمع وكذلك في تأثيرها على السلوكيات الفردية المرتبطة بقرارات الأفراد جراء أنشطتهم وممارساتهم اليومية المختلفة.
كما أن فكر الأسطورة وما دار في رحابها من أفكار ومعتقدات وممارسات وسلوكيات وأحداث يمثل خصوصية لها طابعها المتفرّد كونها لصيقة بأنماط الفكر المجتمعي الذي يتعاطاه الناس في تعاملاتهم اليومية حيث اعتمد الكتاب على إفراد موضوعي وبحثي استقصائي لتاريخ المدينة.
وقد ارتكز بناء مادة الكتاب على مصادر عديدة لإثراء الطرح الموضوعي من خلال البحث في المراجع القديمة والمعاصرة التي طرقت جوانب من فكر المدينة القديم بالإضافة إلى التركيز على روح البحث الاستقصائي لجمع المعلومات من مصادرها الحية الشفهية لا سيما وأن الكتاب يعد المؤلف الأول من نوعه الذي يتناول هذا المحور الهام كمجال في الكتابة التاريخية الاجتماعية لموروثنا الإنساني.
وأفرد المؤلف في محاور متعددة لملامح من الفكر الاجتماعي المرتبط بالخرافات والأساطير والمعتقدات الشائعة التي كانت تتستر خلف الكثير من السلوكيات لما لها من تأثير ووقع على عقول البشر على المستوى الجماعات وكذلك على مستوى تعاطي الأفراد لمعتقداتها الزائفة حيث ينعكس أثرها بوضوح على تشكيل العديد من الاتجاهات السلوكية .
وقد أبحر الكتاب في أعماق تاريخية لفكر المدينة المرتبط بالأسطورة لكون المدينة قد ارتبطت في إحدى تسمياتها المشهورة بجَدة مفتوحة الجيم نسبة لأم البشر حواء حيث تناول ضريح أم البشر حواء محوراً رئيسياً قدم فيه الباحث استعراضاً تاريخيا لما تناولته المصادر التاريخية لنزول أو البشر على أرض المدينة المسماة نسبة إليها وما راج حول صحة أو زعم وجود ضريحها في المقبورة الشهيرة باسمها في قلب المدينة القديمة.
كما طرح الكتاب العديد من الموضوعات التب ارتبطت بتاريخ المدينة القديم والتي راجت حولها الأساطير وكان لها تأثيرها العميق على فكر المدينة وسكانها عبر الأحقاب التاريخية المديدة التي عاشتها قديماً.
وقد تناول الكتاب هذا المحور باعتبار أن الأساطير والخرافات تعد من المداخل المهمة التي يرتكز عليها الباحثون في مجال العلوم الاجتماعية والتاريخ الإنساني لدراسة المجتمعات وبوصفها يضاً حجر زاوية في تحليل مضمون الفكر الاجتماعي كأنماط تفكير وكذلك السمات السلوكية لأفراده حيث تترجم دراسة الأسطورة القدرة على تفسير الكثير من الظواهر وتعين الباحث على تحليل الكثير من الممارسات السلوكية على المستوى الفردي بمحدوديته أو على مستوى الممارسة السلوكية والتأثير على مستور الجماعات وكذلك على نطاق دراسة السلوكيات السائدة في المجتمع في العام.
وعند تناول مادة الأسطورة نجد أننا أمام تجارب إنسانية لها جذورها الضاربة في القدم ولذلك فنحن نطرح جوانب من هذا الفكر كنحوتات قديمة تستوجب منا العناية والدقة والتجرد وترك المجال للباحثين لإعادة قراءته ، كما أنني هنا لا أتعمد نهج تنقية الأفكار أو دحضها وانتقاص أي منها .
وبطبيعة تناول الناس لمحتوى الأسطورة فتعتمد رواية قصصها وحكاياتها على اجترار تناقلها بإضافة تفاصيل مستحدثة معتمدة على خيالات رواتها مما يزيدها توهجاً وبريقاً بوقود ذلك الإثراء المتعمد والمستملح لتفاصيلها المثيرة والمدهشة فتتنامى وتتكور وتتشكل بإضافات مثيرة .. وهذا ما يجعلها محوراً للحدث من تعاقب كل جيل.
وتجدها أي الاسطورة في مدخل آخر وشكل مغاير ومختلف لارتباطها برموز اعتلت فضاء المكان بنتاجها وحقيقة منجزاتها وقد تساهم في تعزيز القيم الاجتماعية والدينية وتنمية الروح الوطنية لارتباطها بحقائق على أرض الواقع وإن صاحبها جنوح لخيالات بعضاً من رواتها عبر الازمنة والأجيال.
وبذلك تشكل صندوقاً أسوداً لا يجرؤ أحدٌ على تشتيت حالة الالتفاف الوجداني نحوها لا سيما في مراحل زهوها وإطباق تأثيرها العميق ، فتدوير الحكي يوافق طبيعة وجودها دون المساس بما تحويه من مسلمات قد ترتبط بممارسات طقوس دينية كما كان يسر عليه اعتقاد المجتمعات ببركات ضريح أم البشر حواء وما يبسط ذلك من طقوس الزيارة وتقديم القربان والنذر.
ويكفى للاستدلال بضرب مثلاٌ واحداً عند مناقشة موضوع كهذا بتقديم الحديث عن قبر أم البشر حواء ، فسيأخذ النقاش مجرىً مختلفاً لكونها أسطورة أخذت طابعاً أممياً و دارت حولها أحداث شارك في تعظيم أسطورتها أفواجاً هائلة من جميع أصقاع الأرض عبر الزمن القديم ..
ففي كل عام حيث الحجاج من كل حدب وصوب يفدون للبقاع ويقدمون قرابين الولاء والاسترضاء لضريح أم البشر حواء حتى ساد الظن إلى أن صحة أداء الحج وسلامة مناسكه وثبوت أركانه لا تتحقق إلا بإرضاء أم البشر التي لها حقوق البر تعم كل البشر ، وتقتضي الوجوب لكل زائر وعابر وحاج يقصد البقاع المقدسة طلباً لنيل المثوبة من الله تعالى وليتحقق وعد الله تعالى بأن يعود كيوم ولدته أمه طاهراً نقياً نظيفاً.
كما أن أمثلة الخرافة عديدة في هذه المدينة من حيث كونها حديثاً مكذوباً لا صحة له ولا أصل في أي وجه من أوجه انتشاره وتطور تناقله بين الأجيال فتحتل " الدجيرة " مكانها البارز هنا وهي جنية خبيثة بحسب تعريف معاصرو خرافتها المستشرية وقد تتسبب هذه الأكذوبة في حدوث عجز حقيقي لأحد طرقات المدينة باحتلالها سكنى بيت مهجور وهو زقاق يسمى " الخنجي "
فلا أحداً يقوى على السير فيه ليلاً فخرافة الدجيرة تسببت في حدوث شلل شبه تام خيم على عقول البشر الراضخين المسلّمين بمكوثها هناك واحتلالها للبيت المهجور حيث لا مجالا للعيش والتعايش في هذه المدينة بغير التسليم بحتمية وجودها ولا يجرؤ كائناً من كان على التشكيك فيها ..
ومن أمثلة هذه الخرافات ما يسمى بـ "النمنم " آكل لحوم البشر وهي خرافة موسمية لها شأنها الخاص حيث تتفشى حالة الاستنفار من مخاطره الجسيمة مع قرب مواسم الحج ومع توافد الأفواج المباركة عبر البحر من أفريقيا على وجه التحديد حيث يندس بينهم نمانم بشرية تتغذى على صغار المدينة وشبابها ويتجاوب الجميع مع خرافتها الجاثمة على عقولهم بمنع الصغار من لهوهم البريء في الحارات والطرقات والساحات في أجواء استنفارية مرعبة..