المقدمة

                           (تاريخ جدة في صورة تنكرية)

الأسطورة كما يراها علماؤها هي التاريخ في صورة متنكرة.. وهي مفتاح الشعوب وحجر زاويته.. وهي أيضاً من كنوز الانسانية التي لا تقدر بثمن فمضمونها شهادة على ماضي البشر وإدراكهم للعالم وتصورهم إياه . 

 

فقد ولىّ وأدبر الزمن الذي كانت فيه مجرد أوهام وأباطيل وترهات أقوال لا نفع لها ولا فائدة منها .. وأقبل عليها زمن مختلف وصفها فيه علماء الأسطورة بأنها مصدرٌ خصيبُ من مصادر دراسة المجتمعات الانسانية.

 

وإذا كانت الاسطورة هي مفتاح المجتمع فإني كنت على إدراك تام أني أبحث عن مفتاح مفقود .. بل وعلى يقين بأنه كنز ضائع في باطن هذه المدينة القديمة إن شئتم قبول هذا الوصف ..  وبناءً عليه فإن قراري الكتابة عن الأسطورة في مدينة جدة على وجه التحديد هو محاولة قد لا تنجب غير هدر الوقت وضياع الجهد ..

 

فكيف لي الإبحار في موضوع كهذا وهو يحتاج لفريق عمل لإتمامه لا سيما  مع انعدام المصادر وشح المراجع إلا النزر اليسير المنثور في مدونات الرحالة  وفي كتب التاريخ القديم وما تركه لنا رواد الكتابة والمنشغلين بها من شظايا ونتف مبعثرة في كتابات ومؤلفات لا شأن لها بالأسطورة من قريب أو بعيد .. فوجدت نفسي في متاهة لا يدركها إلا  المنشغلين في هذا الحقل  والدارسين والباحثين المختصين في هذا العلم الذي أصبح يلاقي اهتماما خاصاً ..

 

 ورغم كل هذا وذاك  فإني كنت ألمح طيف الأسطورة يعيش في زوايا المدينة .. لم يغب عن المدينة يوماً ، كالظل الذي يطارد جسدها ..

 

وكلما أعدت النظر لحالة واحدة في المدينة تيقنت أني أمام حالة استثنائية بما شهدته ساحة المؤرخين من صحة النقل لحقيقة وجود ضريح أم البشر حواء على أرضها ما يجعل المعادلة تنقلب رأساً على عقب .. حيث تواتر ذلك في كتب التاريخ القديم بإجماع شبه تام بنزول أم البشر حواء على أرضها بعد أن أهبطها الله وزوجها من الجنة فعاشت في المدينة القديمة وبنت بها  بيتها أو معبدها وبها  أقاموا قبرها المزعوم ..

 

فالمدينة الغائبة عن مسرح الأسطورة كتدوين ورصد وبحث  قد تكون صاحبة أقدم وأهم الأساطير .. فالسيرة الذاتية للمدينة بوجود أم البشر في ضيافتها الدائمة تضعها في المقاعد الأمامية لما دار في فلك هذه الأسطورة من شأن عظيم وشهرة واسعة..

 

وبهذا تكون جديرة بأن تنال اهتمام الباحثين والدارسين ، فقد ولدت الأسطورة في رحمها منذ أن أحيا الله الارض بسكنى البشر عليها.. وبدون أدنى شك فإن أعظم الأساطير على وجه الأرض قد عاشت ونشأت في رحابها ..

 

والأمر قد لا يحتاج مني للاستدلال بذيوع وانتشار حال الأسطورة القديمة وما خلفته من أثر واعتقاد .. فكثير من رعايا الجاليات الإسلامية كانت تضع قداسة لضريح أم البشر وذلك براً وإرضاءً لمقامها لا سيما في المقبرة الشهيرة التي تحمل اسمها في قلب المنطقة القديمة.

 

وكان الناس عند زيارتهم للبقاع المقدسة – كما سيأتي ذلك تفصيلاً - حيث جدة هي البوابة والمدخل البحري ، وتهوي الأنفس من كل أرجاء الأرض ومن كل فج عميق فيتوجهون لزيارة مقبرة أم البشر في مدينة جدة محملين بالهدايا والنذور من أماكن قدومهم ، مبتهلين مهللين على بلاط قبرها المزعوم ..

 

 ويصل الأمر في عظمة وقوة سطوة هذه الأسطورة إلى آفاق بعيدة لا يتصورها عقل وتصل إلى اليقين والاعتقاد الثابت فالسفينة التي تأخذ طريقها للوصول إلى ساحل جده ولا تحمل لها نذوراً وقرابيناً ستغرق ويهلك ما بها ومن عليها.

 

كانت تلك الأساطير وغيرها التي تنامت ونشأت في المدينة القديمة وتعلّق الناس بوهمها تمثل قوى جبرية متسلطة على ذهن العامة من البسطاء المتشدقين بوهمها ومن بسط تأثير سلطتها السحرية.

 

وهذه الأفكار والمعتقدات جاثمة بحمل ثقيل لا يقوى عامة الناس على غير العيش والتعايش الأبدي معها وما تحدثه من أثر عميق ملازم لحياتهم وبقائهم على أرض هذه المدينة ، فبيت مهجور قد يشل حركة منطقة بأكملها لما تحوم حوله من أهوال وقصص تتعلق بعوالم من الجن والعفاريت وقد لا تتحرك المدينة ولا تتطور إلا بمراعاة بقائه بحاله المهترئ والرديء فلا يقبل العبث خشية حدوث مالا يحمد عقباه .. 

 

وكثير من الأساطير والخرافات قد يقف خلفها وخلف تضخيم شأنها مستفيدون ومرتزقون لهم حظاً مقسوماً من رواج شهرتها وبسط نفوذها واستفحال أثرها منذ التاريخ القديم كرهبان المعابد ومدعوا النبوءات ، في المقابل يسقط البسطاء صيداً سهلاً في شراكها السامة  وتنطلي عليهم حيلها الساذجة ويتحولون إلى خدم ومطيعين ومروجين لتصديق قناعاتها ومحاربين لاستمرار تدفق أوهامها عبر الأجيال .

 

وموضوع كهذا برغم حساسيته إلا أنه على درجة من الأهمية تستحق ما يُبذل من جهد وما سيُبذل امتداداً له لقراءة ودراسة تاريخنا الاجتماعي بجميع جوانبه المستترة والخافية المظللة في مجتمع يتمتع بثراء إنساني ينصهر فيه أطياف البشر على مختلف مشاربهم وأجناسهم على بساط هذه المدينة ، وكحال المجتمعات القديمة التي وجدت لفكر الأسطورة والخرافة متسعاً لنشوئها ورواجها وانتشارها. 

 

ونحن هنا أمام تجارب إنسانية  لها جذورها الضاربة في القدم  ولسنا في حاجة إلى غير الاحتفاء بتاريخنا الذي نطرحه كنحوتات قديمة تستوجب منا العناية به وترك المجال للباحثين لإعادة قراءته ، كما أنني هنا لا أتعمد نهج تنقية الأفكار أو دحضها وانتقاص أي منها .. فمجتمعنا الأصيل بقيمه وإرثه الحضاري قادر على لفظ ما هو مغاير ومخالف لاتجاهه المعتقدي وقادر أيضاً على تنقية جميع الرواسب التي لا تنسجم مع موروثه وقيمه الأصيلة.

 

كما لا يمكن لي ولغيري تهميش أياً من جوانب ذلك المخزون الفكري المرتبط بفكر الخرافة والاسطورة في جدة كمدينة تاريخية ودون الحق في العبث بمكنوناتها الرمزية أو طمس شيئاً منها .

 

                                                 عبدالعزيز عمر أبوزيد