ظهرت أول صيدلية في مدينة جدة القديمة تحت اسم محل بيع أدوية بالمفرق عام 1361هـ لصاحبها سعيد التمر بشارع الملكة أو فيصل قديماً وشارع الملك عبدا لعزيز حالياً فكانت نبوءة العطارين بظهور الطب الحديث , المزعجة لفكرهم والمحرجة لتاريخهم ووضعهم ومكانتهم بين أبناء مدينتهم القديمة , وهي إشارة أيقظت التشاؤم بخطورة ظهور الطب الحديث في أولى علاماته .
وعلى الرغم من عدم التفاف الناس للصيدلية ولما تقدمه من خدمات جديدة ومتطورة قياساً بأساليب العطار وطرقه العلاجية الشعبية القديمة , لكن تلك النبوءة تكشف للعطارين الإشارة الأولى لقدوم علم جديد وتجارة جديدة للطب قد تبني أساساتها على سرقة زبائنهم من أبناء جدة القديمة , وهو علم في بداية نموه وبداية تجارته قابل للتطور السريع ويختلف بطبيعة الحال عن ما يقدمه العطار من أعشاب ووصفات شعبية شكلاً ومضموناً .
وتلك النبوءة التي ظهرت إشارتها الأولى بصيدلية التمر قد أرعشت أطرافهم وهزت كراسيهم رغم إخفائهم سرها وعدم بوحهم وإفشائهم لها في وقت كان فيه الجميع يسيرون وراء العطار ليتلقوا منه الوصفات المختلفة والمتجددة ورفض الناس منافسة محل الأدوية وعلاجاتها وعقاقيرها لشخصية العطار صاحب الشخصية المباركة والقريبة من نفوس الناس وقلوبهم ووسط أرضه وجمهوره .
وشكوك العطارين وقلقهم يتجه نحو هذه التجارة الجديدة التي تحارب أعشابهم ووصفاتهم وطرقهم التقليدية وربما نال بمرور السنين من علاقتهم بالسكان وسيتحول الطب الشعبي الذي يديره العطار بعلاقة أبوية وأخوية تجمعه بالسكان إلى علاقة تجارية تقوم على أساس الربح السريع , فالعطار الذي يعرفه الجميع ويتعاملوا معه بروابط اجتماعية حميمة لا ينظر إلى الأمور المادية كأساس لوجوده أو لتحقيق طموحاته وهمومه التي ترتبط بهموم الناس وشكواهم وأمراضهم وتقديره لظروفهم وأوضاعهم البسيطة , مما يزيد تأصيل العلاقة لصالح العطار ويعثر وجود وانتشار الصيدلي .
وصدقت فعلاً تلك النبوءة على الرغم من وجود مستشفى الحكومة الذي يعود إنشاؤه إلى العهد الهاشمي فقد تم إعادة تجديده وتأهليه عام 1353هـ ، فلم يكن لوجود هذا المستشفى المجاني أي منافسة تكاد تطفو بين الأعداد القليلة التي تزوره من المرضى والأعداد التي تنهال على العطارة لطلب العلاج لأي أمراض عارضة أو أعراض طفيفة .
وأعاد عبد الرؤوف بترجي شكل المنافسة بعد أن أقام ثاني صيدلية أو محل لبيع الأدوية في شارع الملكة عام 1363هـ أي بعد عامين من إقامة صيدلية التمر , مما زاد من يقين العطارة بصدق نبوءتهم لهؤلاء الشباب الذين يحملون مفاتيح الطب الحديث بمحاولاتهم لإقناع الناس بما لديهم من طرق علاجية حديثة , وبدأ الناس ذلك الحين يتغامزون ويتهامزون على هذه الصيدليات التي لو صدق أقوال من يقوم بها فسوف ترمي بشيخهم العطار أو على الأقل تنال من مكانته وسمعته .
ودعم موقف الصيدليين انضمام صيدلي ثالث ساحة المنافسة بالقرب منهما بشارع الملكة وهو عبد الحميد الرويحي وهو أول صيدلي متخصص يحمل شهادة عليا في مجال الصيدلة من جامعة فرنسية وذلك في نفس العام 1363هـ , ولكنه لم يستمر طويلاً حيث وافته المنية بعد فترة قصيرة من افتتاحه الصيدلية .. وكلف بعدها ورثته عاملاً ليعيد فتح الصيدلية ولكنها لم تستمر طويلاً حيث أغلقت أبوابها عن العمل نهائياً بعد أعوام قليلة .
ويقول عبد الرؤوف بترجي بأن الصيادلة في بداية أمرهم لم يكونوا منافسين للعطارة بأية حال وإنما كنا شباناً متحمسين لخوض تجربة جديدة ونشاط تجاري جديد قد يكون له إقبال في المستقبل وتتحقق لهم طموحاتهم وحماسهم .. وإن الشعور بأنهم أطباء المستقبل كان يشكل لديهم إصراراً على المواصلة لخدمة المجتمع الصغير , فالمريض الذي يجرب الأدوية الجديدة وتتحسن حالته يتجه للصيادلة بالشكر والعرفان مما كان يرفع من روحهم المعنوية ويؤكد لهم مؤشرات النجاح التدريجي .
الصيدلي إلى جانب العطار :
واشتدت المنافسة باقتراب الصيادلة من مواقع العطارة ففي العام نفسه افتتح يحي باناجه مكتباً للاستيراد وأنشأ مخزناً خاصاً للأدوية بالجملة بالقرب من سوق الندى وبالقرب من محل العطار حسن أبو الحمايل والعطار حسن لمبة , ليمثل المخزن أول مركز لبيع الأدوية بالجملة للصيادلة الموجودين والمتوقع ازدياد عددهم كأي تجارة ترى وجودها في أي موقع جديد .
وحصل في العام نفسه حسين ناظر على ترخيص رسمي لبيع الأدوية بالجملة بجانب مسجد عكاشة وبمقربة من العطار الشهير سعيد باديب , وكان الناظر يتلقط البواخر المصرية ليشتري ما قد يحمله ركابها من أدوية يدعم بها صيدليته واستمرت حتى منتصف الثمانينيات الهجرية من القرن الماضي .
وفي عام 1367هـ سافر عبد الرؤوف إبراهيم بترجي إلى أكثر من دولة أجنبية بهدف الحصول على فرص استثمارية طبية ليمثل عدداً من الوكالات الطبية العالمية التي تنتج الأدوية آنذاك , ونجح في الحصول في ذلك العام على وكالة شركات عالمية مثل "أربجون" و "أرجنون" و "بار" مما دعم موقف الصيادلة وزاد من تماسكهم واستمرارهم .
ويشير البترجي بأن علاج الصيادلة كان أيضاً بالبركة وربما لم يكن يبتعد كثيراً عن طريقة العطار .. فكنا نحفظ أسماء الأدوية وطرق استخدامها والأمراض التي تحدد لها دون المعرفة بخلفية المرض أو حالاته أو حتى أعراض الدواء الجانبية التي قد تكون له خطورة على المريض .. وكنت أحفظ في ذاكرتي طريقة استخدام الدواء والمرض المخصص له .
ولم يستمع إلى الصيادلة إلا القليل بوجود العطار حتى هذا العام 1367هـ الذي شهد هدم سور هذه المدينة .. وبعد هدم السور فقدت جدة الكثير من ملامحها الشعبية والتراثية حين اتجهت للتوسع الأفقي الرأسي لتتحرر من حدودها دون أن تحتفظ مع السرعة التي صاحبت التوسع والانتشار على هويتها القديمة وسمتها التاريخية , لكن إصرار الكثير من الناس على العطار كان آخر قطرات الوقود التي تشعل لدى العطار رغبة الاستمرار والبقاء وذلك الإصرار ينبعث من خشيتهم وحرصهم على عدم خدش علاقتهم بشيخهم الذي سيُحرج من سرقة الصيادلة لأقرب عملائه .
ومما يؤكد تكاتف العطارين تجاه هذا الوضع الجديد , محاولاتهم لإبعاد المنافسة ولو المؤقتة عن محلاتهم ومسايرة التطور السريع في أعداد الصيادلة , وذلك بشرائهم من الصيادلة بعض الأدوية البسيطة التي بدأ الناس يتعرفون عليها وطبيعة استخدامها في الحالات اليومية العارضة وهي أدوية لا يشترط صرفها بموجب وصفات أطباء مستشفى الحكومة بجدة وقام العطارة بعرضها في محلاتهم لتكون من ملحقات وصفاتهم الشعبية كتأكيد لتطور وصفاتهم ومنها الشاش والماكركروم والاسبيرو وماء غريب والنوفلجين والبنسلين وزيت كبد الحوت وزيت الحوت والابتركس وقطرة البائر وقطرة المرجان وحبوب الحياة والملح الإنجليزي والتونك والفملكس والفكس وبعض المسكنات والسلفا والديتول والأدفور .
وكما يؤكد عبدالرؤوف بترجي فان العطارة كانوا زبائن دائمين لمحلات الأدوية , فكان العطارة يشتروا الأدوية التي حققت انتشاراً والتي سبق الإشارة إليها , وكنا لا نمانع في ذلك باعتبار العطارة زبائن دائمين لنا , ولكن ذلك أكد لنا بأن وجودنا بدأ يهددهم لذلك كانوا يبادرون إلى اقتناء وبيع أدويتنا التي حققت الانتشار .
البداية الحقيقية للمستشفى :
كل أفكار وتصورات العطارين لم تذهب عبثاً رغم اجتهاداتهم لمسايرتها , وذلك بأن شهدت جدة القديمة افتتاح ثلاثة مستشفيات خلال فترات متقاربة , ففي عام 1365هـ بدأ المستشفى الهندي وهو لم يكن إلا عبارة عن مستوصف مصغر أقامته الجالية الهندية لعلاج أفرادها القادمين لغرض الحج أو العمرة , ويستقبل الحالات التي تطرق بابه من أبناء جدة طوال العام حيث يقل عليه الضغط والإقبال , وبعد ذلك تم افتتاح مستشفى خالد إدريس عام 1367هـ وهو أول مستشفى خاص في مدينة جدة , ثم بعدها بأعوام قليلة مستشفى اللبناني ومستشفى أبوزنادة , وكانت هذه المستشفيات في بداية أمرها تستقبل مرضى لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة في ظل وجود العطار وتمتعه بكامل لياقته ووصفاته بين أبناء مدينته ممن يعيشون مشاعر الشهامة والشجاعة والأخوة وروح الأسرة الواحدة , وهي مبادئ ترفض أي تشكيك في قدرات شيخهم العطار أو في أسلحته أو تجاوز بركته في العلاج بالذهاب إلى المستشفى مهما يقال عن المستشفيات من إمكانات متقدمة وحالات رأت الشفاء بعد زيارتها .
فالكثير , مثلاُ , يخشون دخول تجارب جديدة تتلاعب بصحتهم تفادياً لأي سلبيات قد لا تحمد عقباها , والبعض يصورون الأدوية والعقاقير الطبية كأنها سموم ربما تقتل العضو المريض كما تقتل المرض أو تحتم نتيجة الأطباء بضرورة استئصال العضو المريض أو بتره لمجرد تصورات الأطباء التي قد تختلف , أو بإجراء عمليات جراحية معقدة , وهو أسلوب لا يعترف به العطار الذي يعالج بالسفوف أو ينصح بالكي , والبعض من البسطاء يذهب إلى الاعتقاد أن هذه المستشفيات جُعلت لإجراء التجارب الطبية عليهم , والتي سوف تنفذ على كل من يقع عليه الاختيار من زوارها , كل هذه الآراء التي تحارب الطب الحديث كانت تثار على مائدة العطار من جانب مؤيديه والمتمسكين بوصفاته الشعبية .
الزيارة للفئة المغامرة :
القليل قد غامروا بزيارة المستشفى لعرض حالاتهم المزمنة التي شهدت عراكاً دام سنين مع وصفات العطار وأثبت عندها عجزه للتعرف عليها بأسلحته البدائية وطرقه الشعبية , ووجدوا في المستشفى الدقة في الكشف والتحليل والوصف والعلاج والعناية اللازمة التي قد تتطلب التنويم إذا استدعت الحالة ذلك , وهذه الفئة المغامرة واليائسة من حالاتها المزمنة ينتظر الناس آراءها ونتائج مغامراتها وما شاهدوه في المستشفى , فتشهد المجالس الروايات والحكايات عن علاج وأساليب المستشفى ومقدرتها على اكتشاف جميع الأمراض التي أنهت حياة فلان وحطمت مستقبل فلان وأصابت أخر باليأس دون مقدرة من العطار على عمل شيء يذكر لمقاومة المرض , وينصط الجميع إلى هذه الظاهرة الجديدة التي أثبتت نجاحها بعيداً عن مسامع العطار ووصفاته , ومع مرور الأيام بدأ البساط يتزحزح من تحت أقدام العطار الذي شم رائحة الخطر منذ قيام أول صيدلية في شارع الملكة .
ويقول حسن محول ومحمد زاكر بأن زيارة المستشفى كانت تتم دون إحراج العطار , فتتم الزيارة دون علمه ومعرفته , خاصة إذا كانت الحالة تحت إشرافه ورعايته في العلاج , ويلجأ المريض إلى المستشفى على أمل الشفاء الذي يمكن أن يدفع المريض لعمل أي شيء لتحقيقه .. وخاصة بعد نجاح حالات مماثلة زارت المستشفى طلباً للعلاج .
وهنا يروي حسن محمد جوهر قصة في هذا الجانب ذهبت بحياة والده نتيجة الاعتماد على وصفات العطار فيقول : " إن أعشاب العطار لا شك بأنها كعلاج صحية وطبيعية لكن العطار ينقصه العلم بخلفية المرض , والمعرفة بما يضره ويهيجه , فأتذكر حادث والدي الذي عرضه لجرح عميق ولكنه ليس مميتاً حسب تصورات العطار ومن شاهد الجرح , لكن الذي لم يعرفه العطار هو أن والدي يرحمه الله كان من الممكن بأن يكون مصاباً بمرض السكر وهذا المرض لا تكشفه إلا التحاليل الدقيقة للدم , وربما أن العطار ينصح بشرب السوائل المسكرة والتي تزيد من ارتفاع السكر في الدم مما أدى إلى الوفاة دون سبب وكل شيء بقضاء الله وقـدره ".
والفئات المتعلمة والغنية والمتحضرة كانت تنتظر قدوم الطبيب المتخصص وساهمت في نجاحه وتشجيعه منذ بداية ظهوره , بزيارته والتعامل مع علاجه كما يؤكد حسن محمد جوهر .. وأن هذه الفئة المتعلمة تميل إلى ما يقدمه الطبيب على أساس أنه أكثر دقة في العلاج وتحديد المرض .
العطار تحت مجهر الأطباء :
وكان الأطباء في المستشفيات الثلاثة الأولى المذكورة يزرعون تحذيراتهم وتنبيهاتهم للمرضى القلائل الذين يزورون المستشفى طلباً للعلاج وتتجه نحو ضرورة الامتناع عن وصفات العطارة مثلما يحذرون وينبهون على ضرورة الامتناع عن أي جانب يزيد من استفحال وتفشي المرض .. أو على الأقل التأكيد على ضرورة استشارة الطبيب عند أخذ أي وصفة شعبية من الشيخ العطار بحجة أن وصفات العطار غالباً ما تكون عشوائية وما قد تسببه هذه العشوائية من هدم للبرنامج العلاجي الذي يضعه الطبيب بدقة .. وهذه التحذيرات التي يكررها الأطباء مع كل جرعة دواء تعطي أملاً جديداً للحياة وتهز من صورة العطار ومن الولاء لشخصه , ومثلما ينقل زوار المستشفى تصوراتهم وانطباعاتهم عنه ينقلون بأسى واستياء تحذيرات الأطباء التي تهاجم العطار وتنتقد نصائحه فلا تنفذ وصفاته إلا بعد مرورها تحت مجهر الطبيب ليؤكد سلامتها أو يثبت عدم صلاحيتها للاستخدام .
ويقول العطار عبد الله سالم باقبص " إن المنافسة القوية بين المستشفى والعطار كانت تستوجب بقاء أحد الطرفين , مما جعل كل طرف يسعى لإسقاط الآخر وسحب جمهوره وإقناع الناس بصحة ما لديه , ولكن الأطباء كانوا يركزون على جانب التشكيك على عدم ارتكاز وصفات العطار على الدقة والصحة في كل الأحوال لعدم خضوع وصفاته للتحليل والكشف الدقيق كما هو الحال لدى الأطباء " .
وكان العطار خلال تلك المرحلة قد فقد سلاحه المهم وهو اقتناع قطاع كبير من الناس بما يقدمه , والذي زاد من تلك التجاوزات على مكانة العطار قيام مراقبي ومفتشي الشؤون الصحية بجولات رقابية مكثفة على محلات العطارين في سوق العلوي وباب شريف وسوق الندى , لوقفهم عن بيع أي أدوية طبية واقتصارهم على بيع وصفاتهم الشعبية ومعاقبة أي عطار لا يلتزم بهذه التعليمات الأمر الذي يجبر الجميع على زيارة الصيدلية التي تبيع الأدوية بموجب وصفات الأطباء .. وهي ضربة فلقت رؤوس العطارين الخبراء وأفقدتهم فعلياً ثقتهم في وجودهم ومكانتهم في مجتمعهم القديم . وتتأزم نفسياتهم يوم بعد يوم من غمز ولمز الناس على الخيار الجديد المنافس للعطار والذي حقق نجاحاً مؤكداً لحالات كثيرة عانت مرارة المرض باجتهادات ووصفات العطار .
وبقي العطار بوصفاته أسيراً لحالات عشوائية نادرة تلجأ إليه بعد أن تفشل أدوية وعقاقير وتحاليل الأطباء في انتزاع المرض منها , لتتجه لأعشاب العطار كأخر احتمال يعلق المريض ولو بقشة أمل في حصوله على العلاج .. بذلك تكون نبوءة العطار التي قد تحققت كاملة بعد خمسين عاماً , وصل خلالها عدد المستشفيات والمستوصفات والعيادات الخاصة إلى الثلاثمائة , وعدد الصيدليات إلى السبعمائة والخمسين , جعل هذا العدد من العطارة مجرد بائعي توابل وبهارات الطعام من قرفة وقرنفل وهيل وكمون وغيره !!