لا نذيع سرّاً ولا نضيف جديداً عندما نسمي جدة بحواء أم البشر أو حينما ننسب المدينة لحواء وكأنها اختصتها لنفسها بالتسمية والانتساب..
وحينما يتبادر إلى الذهن ذلك ــ وهو حاصل حقيقة وليس على سبيل المجاز ــ فندرك أننا أما شأن جلل ووضع مفرط في الاختلاف والحساسية..
فكيف لا يحدث ذلك والشعور يخيّم على أطراف المكان الذي تسكنه حواء ونزلت به وسمي نسبة لها وسارت الروايات القديمة على إثر ذلك وعلى امتداد عمر الإنسان على هذه الأرض .
فإذا ذكرت جدة وجال الحديث في شأنها وخصوصياتها وميزاتها والعلاقة الوجدانية بها تسيّدت حواء أم البشر مجرى الحديث فطبيعة ارتباطها بالمدينة له شجون يتقاطع في مشاركته عموم البشر .. فيسترسل المتحدث وينصت المستمع لما كان يروج عن تلك العلاقة من سير وأقاصيص حتى قُضي نحبها بها ودّفنت عليها السلام في ثراها في المقبرة الشهيرة المنسوبة ليها حتى وقتنا هذا .
وهنا تجيبنا كتب التاريخ القديم لما حوته في بطونها من إجماع شبه تام على نزول أم البشر حواء عليها السلام لأرض جدة في بداية وجود البشرية على هذه الأرض بعدما أهبطها الله تعالى وزوجها آدم أبو البشر كعقوبة لتناولهما من الشجرة المحرمة .. وغني عن القول كثرة ما جاء في ذلك من تواتر سيأتي ذكر بعض منه على سبيل المثال لا الحصر..
وبذلك يمكن أن نقول أن مدينة جدة هي من أقدم مدن الأرض قاطبة التي شهدت حياة الانسان على الأرض ..
وهذا لا إنكار عليه ولا اختلاف ، لكن الإنكار والاختلاف الذي تواتر عليه المؤرخون في النقل التاريخي حول حقيقة مرقدها وصحة مدفنها ووجود ضريحها في المقبرة التي تحمل اسمها في قلب المدينة القديمة..
وبرغم اتفاقهم على نزول أم البشر على جدة في بداية وجود الإنسان على هذه الأرض فقد اختلفوا وتفرقوا حول حقيقة ضريحها المزعوم في مدينة جدة التي سيمت نسبة لها كونها جَدّة البشر جميعاً في واحدة من الأسباب المعروفة لتسميتها بذلك عبر تاريخها القديم والحديث..
فمنذ ذلك الزمن وهذه المدينة تحمل انطباعاً له بعداً أسطورياً حول الضريح المكذوب أو المزعوم ، فالمستمع بمجرد أن يمنح نفسه فرصة التوقف عند طبيعة التسمية وارتباطها بأم البشر حواء فسيحمل انطباعاً مختلفاً تماماً عن غيرها من المدن عند محاولات تفسير التسمية وطبيعتها..
وتبدأ من هنا عاصفة من الأسئلة المثيرة للفضول لحقيقة بارتباط اسم المدينة بأم البشر حواء والعلاقة القديمة بها ومدى صحة الزعم المتواتر في كتب التاريخ عن مرقدها الدائم بها في مقبرة أمنا حواء المعروفة..
وهو تساؤل بديهي ملح لن يترك العابر للمدينة والسائح بها دون أن يخوض غمار الأسئلة المثيرة للجدل ، سواءً كانوا مسلمين أو غير مسلمين لأن حواء هي أم البشر جميعاً على مختلف أجناسهم وأديانهم .. فكيف لا يكون ذلك الشأن عظيماً وهو يرتبط بمقامها الكريم .. فمن هذه الزاوية نال الضريح انتشاراً عالمياً فهو في نهاية المطاف يخص أم البشر جميعاً وجميعنا يشترك في شعور التوقير لمقامها الطيب ..
فكيف لا يكون ذلك والمدينة تحمل اسم أم البشر جميعاً عرب وعجم وعلى اختلاف أعراقهم وأنسابهم ودياناتهم وألوانهم... فقد منحها التاريخ بذلك حالة نادرة وفريدة علاوة للمكانة والأهمية التي تمتعت بها في التاريخ الإسلامي لكونها بوابة الحرمين الشريفين ومدخله البحري وميناءَه القديم ، وهي كموقع تشكلت ملامح تاريخه وثقافة مجتمعه وملامح تراثه الإنساني ، برغم افتقار أرضها للمياه العذبة وهي مادة الحياة التي لا عيش ولا حياة بدونها لأي كائن ، مما يصعب لأي مدينة غيرها أن تنال ما نالته من هذا التطور والازدهار بالمقارنة لما عانته جدة من خلوها من مصادر المياه العذبة حيث لا عيون ولا آبار ولا مصادر قريبة للمياه مع قلة هطول المطار واشتداد درجات الحرارة وارتفاع نسبة الرطوبة صيفاً إلى حدود مرتفعة جداً ..
فالأهمية هنا فرضها واقع يتجاوز بأهميته وفرادة مزاياه كل تلك العقبات والصعاب فهي قديمة قدم وجود البشر على هذه الأرض بنزول أم البشر على أراضيها وبما حباها الله من مكانة قربها من مكة المكرمة والمدينة المنورة فلا مقصد إلى البقاع المقدسة بحراً إلا من بوابة جدة منذ أن وقع عليها اختيار سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه لتكون ميناء مكة ومدخلها البحري في سنة 26 هـ وهي إلى يومنا هذا وهي تحتل هذه المكانة وتملك هذه المقومات الفريدة.
وكما جاء في الجامع اللطيف لابن ظهيرة (وأول من جعل جدة ساحلاً لمكة عثمان بن عفان رضي الله عنه في سنة ست وعشرين من الهجرة وكانت الشعيبة ساحل مكة قبل ذلك).
وجاء في الكامل في التاريخ لابن الاثير " أنه أهبط (آدم) بالهند على جبل يقال له نود من أرض سرنديب وحواء بجدة ". ، حيث ورد ذكر ذلك بوضوح في الجواهر المعدة بأن الضريح تأتيه الزوار والنذور من جميع الجهات .
وقد استوطن ذلك الاعتقاد برسوخ متجذر حتى كان يشاع قديماً بأن صحة فريضة الحج وسلامة أداء أركانه وإتمام مناسكه لا تتحقق ولا ينعم ساعيها بالقبول والرضوان إلا بتقديم النذور وبذل القرابين براً بحق الأمومة العظيم .. وسيأتي الحديث عن ذلك تفصيلاً.
ولو أخذنا بهذه الزعم وسلمنا بحقيقة وجود الضريح لاعتقدنا كما وصف الأنصاري " أن قبر حواء المزعوم وجوده في جدة هو أقدم أثر بشري على وجه الأرض ".
وذكر عبدالقدوس الأنصاري في هذا السياق : "وقبر حواء من الآثار المذكورة في التاريخ ، وهذه مزية كبيرة لجدة لو ثبتت ولكن دونها خرط القتاد".
وكان يتردد طرح ذلك في كتب التاريخ كما سيأتي استعراض بعضاً منه باتفاق كثير منها على نزول أم البشر بجدة وعلى اختلافهم وتضارب أنبائهم لمدفنها في أرض جدة ، وبذلك يتحقق إجماعهم على تناولهم كرواية غير مسنودة بأدلة موثوقة حول ضريحها المزعوم ، ما قد يضع المدينة في قلب الحدث التاريخي عند ورود جديداً بشأن ذلك ولكن دون ذلك خرط القتاد كما ذكر الأنصاري .. وشأن كهذا له أن يشغل الباحثين لأقدم الأماكن التي عاشت فيها ودفنت كمبحث تاريخي في حالة وجود ما يدعم ذلك من براهين وأدلة..
فقد جاء في تاريخ الطبري ( أهبط آدم بالهند وحواء بجدة ).
وقد جاء في كتاب الروض المعطار في خبر الأقطار ( وبجدة نزلت حواء عليها السلام وبعرفات تعرفت إلى آدم ، وقيل بجدة قبرها ).
ونلحظ أن الحميري المتوفى سنة 900 للهجرة لم يؤكد بل على النقيض ترك المعلومة كما وردت إليه دون الخوض في التفاصيل أي أنها تحتمل الصواب والخطأ وهذا يتضح من تعبيره ( قيل بجدة قبرها ).
وقد جاء ذكر قبر أم البشر بذات السياق في وفيات الاعيان لابن خلكان (وبجدة قبر أم البشر حواء، رضي الله عنها ، على ما يقال ، وقبرها هناك ظاهر يزار) .
وكما هو مذكور بنص (على ما يقال ) أي أنه ينقل ما كان يدور في أوساط العامة ويدرج في حديثهم وما ينقل عبر النقولات القديمة دون تمحيص يثبت تغليب الصواب ولا نفي يستبعد البته افتراض حالة الحدوث.
وقد أورد الفاكهي في أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه عن وجود قبر أم البشر حواء بجدة : (قبر آدم عليه السلام بمكة وقبر حواء بجدة ).
ودوّن ابن جبير في رحلته وصفاً لمقبرة حواء (وبها موضع فيه قبة مشيدة عتيقة يذكر أنه كان منزل حواء أم البشر، "عليها السلام " عند توجهها إلى مكة ، فبُني ذلك المبنى عليه تشهيراً لبركته وفضله ، والله أعلم بذلك).
وبهذا التعليق قدم وصفاً يستحيل به وصول المؤرخين والباحثين للقول الفصل بين صحة مدفن أم البشر من عدمه حيث الاحتمال بضعفه وقلة برهانه لو ثبت فإن المدينة ستحتل اهتماماً كبيراً..
وفي رأيي فإن صحة الوجود من عدمه لهذا الضريح لم يغيّر أو يبدل من الأمر شيئاً ، فقد انشغل الناس بأسطورة تعد من أقدم الأساطير وانشغل الزوار والحجاج عبر الزمن القديم بإحاطة القبر بقداسة خاصة بالضريح وبقداسة أشمل وأوسع للمكان المحيط به إلى درجة اعتقادهم بحتمية البذل لنيل الرضى وحلول البركات ، حيث كانت النذور والقرابين تلقى في رحاب بقاعها استرضاء لأم البشر وبراً لحقوق الأمومة.
ورغم أهمية ذلك في سياق الطرح التاريخي في قضية تمس البشر جميعاً على اختلاف أجناسهم وأديانهم كونها أم كل البشر جميعاً فقد اكتفى ابن جبير بالوصف دون تأكيد أو نفي بوجود ضريحها لما توفر له معرفته بحسب ما يسود في أوساط العامة والبسطاء قديماً لا سيما في أوساط الحجاج والمعتمرين من اعتقادات بكرامات وبركات تحلّ لمن يزور المقبرة ..
ويحتل تقديم النذر وزيارة القبر المزعوم فاتحة انطلاقهم للمشاعر المقدسة نظراً لوجود القبر في جدة والتي منها ينطلق الحجاج إلى مكة باعتبارها المدخل البحري الرئيسي عبر التاريخ لمكة وتبركاً منهم بزيارة قبر أم البشر لتحل عليهم البركات وتفتح أمامهم السبل وتسهل في طرقهم أبواب القبول وغير ذلك من الأوهام التي تعلقوا بها وما خلّف ذلك من استغلال لأموالهم واستنزاف مقدراتهم من قبل فئة مروجة لهذا الاعتقاد ونستدلّ بذلك من قول ابن فرج في السلاح والعدة أن السفن تأتي محمّلة بالنذور فالمقصود ابتغاء البركة وبلوغ أعظم الأجر ، من هنا أيضا يتضح كيف تطور الاعتقاد وما صاحب ذلك من ظنون تحولت فيما بعد لمعتقد ديني عند كثير من الناس كأسطورة تجذرت في باطن تفكير المجتمعات ببركات وكرامات دينية تولدت نتيجة الظن بصحة ضريحها وما تلى ذلك من بناء القبة وتشييدها .. ويؤكد ذلك ما جاء في التاريخ القويم باحتيال الدجالين والمرتزقة لجمع الصدقات الذين تجوز عليها الخرافات.
ولعل ما نقله ابن المجاور في كتاب تاريخ المستبصر كان قد حمل افتراضاً بصحة وجود المقبرة كما جاء عنه " و يقال إنما سميت جدة إنها دفن بها أم البشر حوى عليها السلام فهي جَدة جميع العالم فلما بني هذا البلد عرف باسم جدة أي حوى زوج أبي البشر عليه السلام "
وقد علق عبدالقدوس الانصاري في تاريخ جدة على ضعف الرواية حيث ساقها بصيغة ( يقال ) وقد وصفها بأنها رواية أسطورية فقد نفاها الثقات نفياً باتاً ولا يعقل أن يظل قبر أم البشر حواء معروفاً حتى اليوم.
وكما ذكر السبتي في القرن السابع الهجري " وعاينا أيضاً بخارج هذه المدينة (جُدة ) قبة مبنية زعموا أن بها قبر أم البشر حواء عليها السلام ، وقد صوّر بداخلها قبر ، والناس يقصدون ذلك القبر للتبرك بزيارته ويرون أن الدعاء به مستجاب ".
وفي كتاب شفاء الغرام للفاسي ( ولعل هذا الموضع هو الموضع الذي يقال له : قبر حواء، وهو مكان مشهور بجدة، إذ لا مانع من أن تكون نزلت فيه ودفنت فيه ، والله أعلم . وأستبعد أن يكون قبر حواء بالموضع المشار إليه لكون ابن جبير لم يذكره ، وما ذاك إلا لخفائه عليه ، فهو فيما عليه ، وهو من الزمن أخفى ، والله أعلم ).
وجاء أيضاً عن ابن المجاور تعظيماً لفضل المكان وتمجيداً لبركته لوجود قبر أم البشر به ( أنت في جدة الصلاة فيها بتسعة عشر ألف صلاة و الدرهم فيها بمائة ألف و أعمالها بقدر ذلك يغفر الله للناظر فيها مد بصره ) وذكر أيضاً ( و ما أظن هذه البركة إلا من جهة أم البشر حواء صلوات الله عليها لأنها مدفونة بظاهر جدة ، و كان الفرس قد بنوا عليها ضريحاً بالآجر و الجص محكماً فبقي إلى سنة إحدى وعشرين و ستمائة فبعد هذا التاريخ تهدم وارتدم بعضها على بعض و لم يعاد بناءه ورأيته عامراً قائماً و قد رأيته خراباً و قد ارتدم بعضه على بعض ، و هو موضع مبارك مستجاب فيه الدعوة. )
ويوضح جلياً أن وجود المقبرة وما توارث عنها من اعتقاد بفضلها وقداستها هو من قبيل الأساطير والأوهام التي تعلق بها الناس وكان بعض الحجاج قد ربطوا زيارة المقبرة والتبرك عندها بسلامة رحلتهم الدينية وأداءهم لمناسك حجهم الذي بذلوا من أجل بلوغه وقبول أجره غالياً ونفيساً وما يستهلك في زمنهم القديم من مشقة وصعوبة في الترحال والتنقل في عرض البحر .. وقد أدى انتشار مثل هذه الاعتقادات إلى يقين البعض بأن حجهم لا يصح ويتوج بالقبول دون زيارة المقبرة والتسليم ببركتها وفضلها وتقديم النذور والقرابين براً بأم البشر جميعاً.
وكان للمؤرخ المكي محمد الطاهر الكردي في التاريخ القويم رأياً وغيره عن هذا الاعتقاد الذي انجرف خلفه الناس ردحاً مديداً من الزمن بقوله ( اشتهر لدى الناس أن قبر حواء بجدة في الجبانة المعروفة ، وكانت عليه قبة مشيدة من قديم الزمان ، واشتهار قبرها لا يستند إلى دليل شرعي قاطع ، ولا إلى تاريخ صحيح ثابت ونحن نعتقد أن هذا كذب اختلقه المرتزقة منذ قرون مضت فرسخ ذلك في أذهان العامة).
وصف القبر المزعوم
وكما في الرحلة الحجازية لمحمد لبيب البتنوني في وصف مقبرة أمنا حواء على بعد كيلومتر من باب المدينة من جهة الشرق يسمونه باب مكة ترى في مدخله زمن الحج كثيراً من الشحاذين صغاراً وكباراً من الأعراب والأغراب فإذا دخلت هذا الباب وجدت أمامك رأس قبر طويل ضارب إلى الشمال بمسافة مائة وخمسين متراً وعلى ارتفاع متر وعرضه نحو ثلاثة أمتار ، وهو ما يسمونه قبر أمنا حواء وهو أشبه بقناة مسدودة من طرفها الجنوبي بثلاث حوائط ينقصه الحائط الشمالي الذي هو من جهة القبر وطول كل حائط أربعة أمتار في ارتفاع مثلها في كل منها شباك أو نافذة تخرج منه فروع كبيرة تكاد تسد فراغ هذا المربع الذي هو مكان الرأس. وفي نهاية هذا المستطيل من جهة الشمال حائط يبلغ ارتفاعه نحو ثلاثة أمتار في وسطه ومن أعلاه شرفه تحتها شباك يطل على القبر من جهة القدمين وفي نهاية القبر ترى أناساً متطوعين لإرشادك عن مكان الرأس والقدم وأيديهم ممدودة للسؤال وفي نحو ثلثي طول القبر من جهة الرأس توجد قبة يفتح بابها إلى الغرب وفيهما شباكان يشرفان على جهتي القبر وفي وسطها مقصورة من الخشب عليها ستر من الخوج فيها باب مقابل لباب القبة.
ويستطرد مؤلف كتاب الرحلة الحجازية فتح لنا خادم المقصورة قائلا "هذا مكان السرة الشريفة ، فنظرت فوجدت فيه حجران من الصوان يبلغ طوله نحو متر ، محفور من وسطه ، وهو أشبه بمذبح كان مستعملا في قديم الزمان لتقديم القربان".
وقد عاشت جدة في قوقعة أسطورية قديمة لما كان يروج بذلك من معتقدات ظلت عمراً من الزمن ، ولم يتوقف طرح ذلك السؤال عند الذكر العابر بقصد أو بدون قصد بتخطيط مستقصد أو بمحض الصدفة العابرة لاسم المقبرة وحقيقة ضريحها الأسطوري القديم وعلاقة اسم جدة مفتوحة الجيم كما يطلق عليها ويستهوي ذلك نطقها كثير من أبناء الجاليات العربية حيث ينال طرح السؤال نصيباً من اهتمامهم ويثير علامات الاستفهام لهكذا رابط بين المدينة كتسمية ترتبط بأم البشر و بحالة وجود مقبرة تحمل ذات الاسم فلم تشفع محاولات توضيح وتبصير كثير من المؤرخين قديماً أو نفيهم لوجود ضريح أم البشر وما تبع ذلك من أوهام ممارسات وطقوس ..
.....................
لكن المقبرة في عموم أحوالها وما يدور حولها في أوساط جماعات الرأي وبعض النافذين لم تكن تنعم بالتأييد الكامل والتصديق بما تحويه وما يشاع حولها من تعظيم لفضل كراماتها فهناك من كان ينادي بتصحيح مفهومها الخاطئ الذي يتبنّى أسطورة متفشية بتأثيرها وضلال فكرها .. وظهر ذلك جلياً في محاولات متخذي القرار في تحطيم تلك الأسطورة المتجذرة بهدم الضريح وإثبات أنه أكذوبة والقضاء على وهم التعلق به وتعظيمه وهو في حقيقته أباطيل لا أصل لها في غير عقول الناس ..
وكيف ان المحاولات العديدة التي تم الإعداد لها لهدم المقبرة وإزالة ما يروج حولها من ممارسات شركية خاطئة يعتقد بها الحجاج قد جوبهت بمواقف مناهضة وخطوط حمراء لم يكن يدرك أحداً صلابتها وأبعادها ، ولنا أن نتصور فداحة وعِظم الموقف المهيب وقوة سطوة تأثيره ليس فقط على فكر الأفراد وإنما أخضع ذلك الموقف دولاً كانت تتدخل وترفع رايتها ونفوذها دفاعاً عن وجود المقبرة وما يكتنفها ويدور حولها من أفكار ومعتقدات بدفاع صريح واستخدام نفوذ سياسي ..
أدى الأمر إلى تدخل قناصل دول أوروبية ليس لها من حج المسلمين ناقة ولا جمل ، لكن الأمر قد أُعطي بعداً مختلفاً لاهتمامهم الشديد لأي شأن يتعلق بالمقبرة وتعظيم ما يروج حولها من احتضان لرفاة أم البشر جميعاً.
وقد حدث فعلا أن تدخل قناصل دولاً أوروبية كبرى لثني أي مشروعات لهدم المقبرة وإزالتها ومنطقهم في ذلك أن ضريح أمنا حواء هو شأن يخص كل البشر في جميع أنحاء المعمورة وليس لفئة دون أخرى أو مجتمع دون آخر .. وسيأتي ذكر ذلك تفصيلاً.
وكانت هناك محاولات جادة لهدم القبر المزعوم لتخليص الناس من معتقده في عهد الشريف عون الرفيق ، وكما في كتاب (ملوك العرب) لامين الريحاني أنه في القرن الثالث عشر الهجري أي قبل العهد السعودي أراد الشريف عون هدم القبة للقضاء على ما يتداول حولها من أفكار مغلوطة وضلالات ، فأمر بهدم القبور والمقامات وكان جهاده يذهب حتى بقبر أمنا حواء لولا تدخل القناصل - قناصل الدول – أي الدول الغربية - ، وحالوا بينه وبينها وقالوا له لك ما تشاء من الأولياء ولكن حواء أم الناس أجمعين ، في رسالة واضحة أنها ليست أم المسلمين وحدهم .
وهنا نتوقف أن حالة مقبرة أمنا حواء أخذت صبغة الإجماع لموقف لا ينسحب ويختص بدين أو جنس بل عكس ذلك درجة تأثير الأسطورة بظهور الأصوات المدافعة عن بقائها باستخدام كل الوسائل الممكنة لثني أصحاب القرار عن الهدم دون التحقق من صحة وحقيقة الحالة ذاتها إن كانت أكذوبة أو كانت حقيقة تاريخية مثبوتة ، فمن غير الوارد تحقق القناصل واستقصاؤهم واستيضاحهم ، فقد نما إلى علمهم أصوات المطالبين لبقاء المقبرة بحالها وما يمارس بشأنها من طقوس ، فتعاملوا مع الأمر على حقيقة ما بلغهم من شأن عظيم لأثر يتعلق بأم البشر جميعاً .. وهم يمثلون دولهم ويمارسون حق التأثير والنفوذ السياسي ..
وكانت الصيغة التي تقدم بها القناصل الغربيين هي صيغة احتجاجية بحسب ما نقله كتاب ملوك العرب للريحاني وغيره من المصادر احتجاجا على هدمها ، وهو ما أعطى الأمر صدىً سياسياً قد يكون واسعاً مداه ما أجبر حاكم مكة آنذاك الشريف عون إلى التنازل عن مشروع الهدم وتراجع عن فكرته.
كما جاء أيضاً في كتاب (علماء نجد خلال ثمانية قرون ) لعبدالله بن عبدالرحمن البسام : (لم يقتصر نشاط المترجَم على دعوة الأفراد ، حتى اتصل بأمير مكة الشريف عون الرفيق، وكلمه بخصوص هدم القباب والمباني التي على القبور والمزارات، وشرح له أن هذا مخالف للإسلام، وأنه غلو وتعظيم للأموات يُسبب فتنة الأحياء وبث الاعتقادات الفاسدة فيهم ، فما كان من الشريف عون إلا أن أمر بهدم القباب التي على القبور ، عدا قبة القبر المنسوب إلى خديجة - رضي الله عنها- ، والقبر المنسوب إلى حواء في جدة ، فأبقاهما خشية من الفتنة ، وصار المترجَم بسبب علمه وعقله ونصحه مقرباً من الشريف عون ، يُجله ويقدره ويعرف له فضله وحقه )
لكن ذلك لم يستمر طويلا في مضمار الصراع الأزلي المضطرب مع الأفكار الضالة المضللة التي تستهدف استدراج البسطاء وتغريرهم وإدارة عقولهم بترويج ما يحقق لهم مآرب قد تعجز عن تحقيقه أي تجارة مهما كانت رائجة.
وفي العهد السعودي انتفض الملك عبدالعزيز يرحمه الله لدينه دون هوادة ولا نظر لأي عواقب محتملة لكون مقبرة حواء ذات صدى خارجي سياسي لقناعته بأثرها المضلل لفكر المسلمين الذي يفدون إلى البقاع المقدسة عبر ميناء جدة محملين بقرابين لم ينزل الله بها من سلطان ويقف خلفها مستفيدون ومنتفعون يروّجون لمرابح خاصة لنيل أموال الحجيج واستهداف خداعهم.
وكان هدم المقبرة من أول وأهمّ الأعمال في جدة بعد توحيد البلاد وخضوع جدة وانضواءها إلى حكمه وقد طهّر بذلك المدينة من الضلالات التي سيطرت عليها قرون من الزمان.
وهنا أيضاً جاء في إعلام الحجاز إيراداً وتفصيلا للأستاذ محمد علي مغربي " أدركت قبر السيدة حواء أم البشر بمدينة جدة في أوائل الأربعينات من القرن الهجري الماضي ، تتوسطه قبة عظيمة ، ومن أمام القبة وخلفها ممر طويل، ويدخل الناس والحجاج خاصة لزيارة أمنا حواء في الحجرة التي تعلوها هذه القبة ، وقد زُينت هذه الحجرة بالستائر، وأُطلق فيها البخور، ويتولى أحد المشايخ شأنها، بإدخال الحجاج، وتلقينهم الدعاء للزيارة، ويتقاضى من الزائرين النقود التي يدفعونها مكافأة له "
"وحينما استولت الحكومة السعودية على الحجاز ، ودخل الملك عبد العزيز مدينة جدة سنة 1344هـ ، كان من أوائل الأعمال التي قامت بها الدولة السعودية هدم ما يُسمى قبة حواء ، وقفل الزوايا المنسوبة إلى الطرق الصوفية، وإبطال البدع التي كانت سائدة في ذلك الزمان، والتي كان يتقرب بها الناس ـ كما يظنون ـ إلى الله تعالى " .
وقال عن انتشار زيارة القبور للتبرك : " كان السذج من الناس يزورون هذه القبور ، والتي كانت منتشرة بمدن الحجاز كلها، وينذرون لها النذور، وهذه كلها من البدع الضالة المضلة التي دخلت على المسلمين، واستغل القائمون على هذه القبور سذاجة الناس وغفلتهم ، وجهلهم بالدين الصحيح ، فأقاموا القباب على هذه القبور، واستولوا على ما يَرِدُ لها من أموال النذور، وكل هذا ليس من الدين الصحيح في شيء ، بل هو مدعاة للانحدار إلى هاوية الشرك والعياذ بالله تعالى، فالله تعالى هو الضار وهو النافع، والدعاء يجب أن يكون له وحده تعالى دون وسيط أو شريك، وقد أزيلت هذه القبور وما عليها من القباب، وانتهت تلك البدع الضالة المضلة ، حينما قامت الحكومة السعودية - بعد انضمام الحجاز إليها - بإزالة تلك القبور والقباب ، فسلمت للناس عقائدهم من الشوائب والانحرافات "