عجوز المدن في غير حاجة إلى مساحيق تجميلية..!!

الكاتب: عبدالعزيز أبوزيد
المصدر: مجلة جدة

قد خوّلها الزمن المديد بأن تجمع بين طرفي نقيض .. فالمدينة الحالمة التي تنام على شاطئ  البحر وتكتسي واجهات بناياتها بتشكيلات من الرخام والزجاج وبأنماط من فنون البناء الحديث هي ذاتها التي تحتضن في ذاكرتها القديمة ذخائر وكنوز لا تذهب أدراج الرياح ولم تغب يوماً عن سماء المدينة ودفء أجوائها .. فالذي يتجول في أزقة المنطقة التاريخية سوف يكون مضطراً لأن ينساق خلف ما ترويه حكايات التاريخ المكتوبة في أزقتها القديمة وبرحاتها التاريخية وفي ساحاتها وحاراتها الآسرة بعبق الماضي الأثير.

فجدة من المدن التي كان لها أن تجمع بين طريفين متباعدين، بين جدة الجديدة بصخب الحداثة والتطور ومجاراتها لركب الحياة العصرية وبين شقيقتها العجوز أو القديمة وهي التي قد شاخ بها الزمن وعمرت في أحقابه السالفة وقرونه القديمة فتعرض بضاعتها النفيسة لزوارها وفيها تجربتها الإنسانية الفريدة والغنية بملامحها الأصيلة.

الفرق بينهما خيط رفيع رغم البعد الزمني السحيق، فجدة القديمة لا تحتاج لمساحيق تجميل لتزيل تجاعيدها ولا إلى أصباغ وألوان صارخة لتسحب الأضواء والأنظار إلى ملامحها الجميلة الفاتنة ولا تحتاج لكل هذا البريق والصخب فطبيعة المكان ومحفزات التاريخ ودلالته يستأثر باهتمام الزوار ، فهي بعكس المدينة الجديدة التي تزدان بالطلاءات والأضواء البراقة الصارخة . 

تلك الأصالة لا تحتاج منّا بذل الجهود وإنفاق الأموال الهادرة فهي من يعبر عن ذاتها وهي من تحكي عن ماضيها وحياة القدماء بها ، والمتجول في رحابها يجد ضالته في عراقة ماضيها فهي بحق أشبه ما تكون بالمتحف العالمي المفتوح الذي يحاكي الهواء الطلق ويقدم تشكيلة متنوعة من الفنون الفريدة المتجانسة ، حيث بيوتها الحجرية المتلاصقة ببهائها وروعتها ومشهد الحارات في تعرج أزقتها والتقاء ساحاتها  ، كما أنها تزداد أصالة وفرادة في أوصافها كلما تقدم بها الزمن لأن مكوناتها الرمزية لا تحتاج منا الكثير غير رعايتها وصيانتها بنفس المظهر القشيب التي كانت عليه في ماضيها  فهي بحالها الجاذب شاهداً للأجيال كحقيقة ثابتة لا تتغير عبر الأزمنة وهو واجبنا التاريخي تجاهها ومن أجل كنوزها الوطنية التي لا تقدر بثمن. 

نحن في حقيقة الأمر لا نضيف جديداً لروعته المكان وحديث التاريخ فيه لأن المقومات الطبيعية البديعة للمنطقة تجعلها في مقدمة اختيارات زوارها ولو فعلنا وقمنا بتجديد مظهرها البديع فلربما نتسبب في حدوث تلويث بصري لعراقة المكان وهي من المخالفات المستحدثة  التي لا تقل عن غيرها عند تشويهنا للملامح الجمالية بإضافات منفرة وغير لائقة ولا مناسبة للسمت العام .

ولعل كتب التراث والتاريخ تستعرض لنا جماليات المدينة القديمة في وصف جمال بيوتها وحاراتها وأزقتها وأسواقها الوفيرة بالسلع والعروض والمنتجات ، فكانوا يصفون بحالة من الإعجاب ما كانت عليه المنطقة من روعة وعراقة ولا سيما في وصف بيوتها وطبيعة أزقتها المتعرجة التي تسوق السائرين إلى معالم المدينة القديمة. 

من ذلك نقول بأن الذي تستحقه المدينة القديمة منّا الشيء الكثير لطالما أنها مكتملة المقومات ولأنها حالة إبداعية فريدة في زمننا الحديث ، وعلى الجهات ذات العلاقة المباشرة بشأن المنطقة القديمة الإسراع في ترميم البيوت التاريخية بخطة شمولية غير مجتزأة ودون الركون إلى حاجة الملاك وظروفهم باعتبار أن هذه الآثار تحمل قيمة وطنية من الواجب أن لا تُترك في ملتقى الظروف التي قد تعرّضها للسقوط والخلل  ولا سيما المصنف منها كأثر تاريخي وقيمة فنية.

فمشهد البيوت بهذا الحال من الأمور المعيبة التي تستوجب أن نعجّل بواجباتنا تجاهها فلا نسلّم لمحدودية  الجهود التي تبذل بل نوسع الدائرة لتشمل المنطقة القديمة بجميع مرافقها التاريخية  وأن لا نسلط أيضاً جام اهتمامنا لتنظيم المهرجانات رغم أهميتها ودورها الوظيفي الفعال ولي في ذلك وجهة نظر سوف أسوقها تباعاً في حلقات قادمة.. فقد لا تمهلنا تلك البيوت طويلاً مع الحاجة الملحة لإسعافها سريعاً  فقد أدركها الهرم والشيخوخة وفيها صفحات التاريخ مفتوحة للقراءة برموزه وشخوصه ودلالاته وبها يلتقي السياح الزوار  وأبناء الأجيال المتعاقبة وفيها رحابها تتسلسل الأحداث التي مرت بالمنطقة ، ومنها أيضاً نتعرّف على تجارب السالفين وعراكهم الشاق مع ظروف الحياة ومكابدة مشقاتها فخلف تلك الملامح الجميلة مشاهد يجب أن تحكي بتلقائية وجودها ما كانت عليه المدينة وما كان عليه سكانها القدماء..

 

                                           عبدالعزيز عمر أبوزيد

 

Back