جدة تعيش بقلبين ينبضان بعبق التاريخ والحياة العصرية

الكاتب: مدير تحرير المجلة
المصدر: مجلة جدة

الباحث عبدالعزيز عمر أبوزيد في حوار لمجلة جدة :

جدة تعيش بقلبين ينبضان بعبق التاريخ والحياة العصرية

الكتابة عن تاريخ جدة وموروثها الإنساني ليس ترفاً أو لرغبة في الظهور الإعلامي ، وإنما شغفاً بتاريخ هذه المدينة القديمة التي تعجّ بالكثير من الأسرار والحكايات ، وكشف الباحث المتخصص في تاريخ جدة عبدالعزيز عمر أبوزيد في حواره لمجلة جدة مقتطفات عن هذه المدينة التاريخية التي كانت أرضاً خصبة لنشوء الأساطير والخرافات مبرراً ذلك بخصوصية التنوع في موردها الثقافي والإنساني مما جعلها ثرية في مضمونها وعمقها بحكم استيعابها لثقافات مختلفة ومتناثرة ، موضحاً أن لكل مجتمع مخزونه المتواري عن الأنظار وتجده مفرطاً بالأفكار المرتبطة بالخرافة.

ويرى أبوزيد أن ساحة الكتابة عن هذه المدينة يشوبه الكثير من النقص في جوانب عديدة بسبب انصراف كثير من المؤرخين والرحالة والباحثين لمكة المكرمة والمواقع المقدسة مستطرداً : لكن رغم ذلك لم تغِب المدينة عن مسرح الأحداث التاريخية لأهميتها كموقع استراتيجي وسياسي وتجاري. 

• ما دوافع كتابتك عن تاريخ جدة القديم لاسيما الجوانب التاريخية المجهولة كالحرف والمهن العتيقة والبحث في أعماقها؟

الكتابة عن تاريخ مدينة جدة ومورورثها الإنساني ليس ترفاً كتابياً أو لرغبة في الحضور أو الظهور وتحقيق الذات .. فلم يدرّ ذلك في خلدي إطلاقاً منذ المحاولة الأولى للكتابة عن المدينة التاريخية القديمة .. إنما جاءت الكتابة لظروف اضطرارية ملحة ولربما اشغلتني وغيرت مسار اهتمامي وتوجهي الشخصي في مجالات البحث والكتابة الصحفية فبدأت كصحفي مختص في شؤونها المحلية ومتمعن وباحث في تاريخ فكرها المجتمعي ..ولكني كلما تطرقت للكتابة التحليلية الاستقصائية لجوانب من تاريخها وتجربتها الإنسانية وموروثها الاجتماعي أدركت أني أمام منعطف مثير لاهتمام القارئ لأسباب فقد غابت المدينة لعقود أو لقرون إن صحت العبارة عن مسرح أحداث الكتابة التسجيلية والبحثية والتدوينية إلى الحد الذي يجعل القارئ والمهتم متعطشاً بشغف لكل ما يكتب عن المدينة لذلك وجهت اهتمامي على هذا الجانب الذي يعد مسؤولية مهنية وتاريخية لا أرتجي منها ثراءَ ولا شهرةً رائجة بقدر اهتمامي وغيري من المهتمين والباحثين ـ وكلنا ف ذلك سواء ـ لخدمة الساحة بالكتابات والأبحاث في سباق مع الزمن لسد بعضاً من الثغرات بقدر ما نستطيع ونترك ذلك للتاريخ وللناس فما ينفع منها يمكث في الأرض أو يذهب جفاء.

 

• ماذا ينقص لتوثيق المنطقة التاريخية؟

ينقص الكثير من الجهود المنظمة أي التأصيل المنظم في تبني المشروعات البحثية فمن المؤسف أن لا جهة بعينها ترعى هذه الأبحاث لترى النور وقد يلجأ الباحث لناشرين وقد لا يجد لصعوبة ظروف النشر في سوق الكتاب الضعيف توزيعاً وتسوقاً ورواجاً .. وكذلك تبني الجهات الأكاديمية والعلمية تنفيذ مشروعات بحثية في هذا الإطار وحتى يتحقق هدفها الرئيس لخدمة مجتمعها الذي تنطلق منه ومن زوايا فروعها العلمية المتخصصة .. وحسبي أنا وغيري أن العشق هو دافع العطاء ولو توفر ذلك للقائمين على هذه الجهات لوجدت المدينة حالة من النشاط في الإنتاج لثراء تاريخها وتراثها الإنساني الأصيل.

 

• لك تجارب واحتكاك مع بعض الوفود الأجنبية، ماهي وجهة نظرهم حول تطوير جدة القديمة؟

نعم كان ذلك خلال تجربتي للكتابة الصحفية التي استمرت لقرابة خمس وعشرون عاماً .. فعند تجولهم في المنطقة القديمة كنت التمس من ملامحهم وتعبيراتهم حالة الذهول التي تستوقفهم لطبيعة المكان وتاريخه فيبدو أمامهم ككتاب يستمتعون بتقليب صفحاته الأثيرة بالماضي وتجاربه القاسية وكان محور تساؤلهم عن العمق الزمني لتلك الحضارات التي انصهرت في بيئة واحدة وشكلت بذلك عبقرية المكان حيث تتنوع ثقافاته وفي ذات الوقت تبدو في مظهر فريد ومتجانس يعكس طبيعة المكان كمدخلاً رئيسياً عبر التاريخ لمكة المكرمة والمشاعر المقدسة.

 

• من الملاحظ اختلاط العمران الحديث وتداخله مع البيوت التاريخية، إلى أي مدى يؤثر ذلك على قيمة ومكانة وجمال المنطقة التاريخية؟ 

جدة تعيش بقلبين وعاشت بذلك وعلى ذلك منذ زمن طويل ، ففي جدة القديمة مظهر التاريخ القديم بأحقابه السالفة وهي بحق متحفاً هوائياً يحكي بلسان التاريخ ويستعرض تجربة الأجيال القديمة التي عاشت على هذه الأرض وهي محمية تاريخية وحيدة في الخليج ومن نفائس المدن العربية التي تزدهي بموروثها وفنونها التراثية ..

وفي شمالها المدينة الجديدة المتطورة التي تعكس حداثة الحياة ومواكبتها لمظاهر الحياة العصرية التي تبدو في مبانيها ومنشآتها الحديثة.. فلا غرو في ذلك ويكسبها عامل جذب سياحي فريد ، فمن يزور قديمها يعيش حالة مختلفة تماماً عن ما يشاهده في حديثها المتجدد.

 

• برأيك، لماذا لم تحظ بعض الكتب التي تناولت تاريخ جدة بكم من الدراسات والأبحاث التي تستحق شمولية التأريخ الجداوي؟

ما من شك أن ساحة الكتابة عن هذه المدينة يشوبه الكثير من النقص في جوانب عديدة، وقد يكون ذلك لانصراف كثير من المؤرخين والرحالة والباحثين لمكة المكرمة والمواقع المقدسة وهي الأولى بذلك ، ولكن الفراغ في بالكتابة عن هذه المدينة ـ إلا ما قلّ وندر ـ لم يغيّبها عن مسرح الحدث التاريخي لأهميتها كموقع استراتيجي وسياسي وتجاري وهو ما يجب علينا العمل على استدراك ذلك لتغطية جوانب عديدة منه منها قبل أن يدركنا الوقت لذلك فالأطروحات الجديدة عن جدة تحتل أهمية خاصة في الكتابة مع أهمية تجنب التكرار والاجترار الذي لا يقدم كثيراً.

 

• ولماذا انساق العديد من المؤرخين في التدوين حول جدة ولم يهتموا بطرح المادة العلمية أو الولوج إلى بحث استقصائي لتقديم تاريخ جدة بشكل موثق؟

ربما لعم توفر ما يكفي من غزارة المصادر فتجد بعض المواد شحيحة في مباحثها الأصيلة ويعيب بعضها الركون إلى إعادة إنتاج القالب في صور مختلفة ، لذلك من الأجدى الاستباق إلى تناول مباحث مستجدة في إنتاج المادة البحثية من خلال البحث في المكونّ التفصيلي وتناول الفروع والجزئيات وهو دور منوط بالأقسام الجامعية المختصة في فروع العلوم الاجتماعية والإنسانية والتاريخية وهو سؤال ينبغي أن لا نتجاهله عن أدوارها المهمة ولعلي استشهد بكثرة الموضوعات  كالسائر لصيد ظبي يسد حاجته فأحتار ما يصيده منها عند مروره بغابة يكثر فيها الضباء بلا عدد وحصر حتى وصف بذلك الشاعر بقوله:

تكاثرت الظباء على خراشِ .. فما يدري خراشِ ما يصيد

 

• ما كتب عن جدة البعض يراه تدوينات رغم قيمتها وفائدتها، ولكن ماهي أسباب غياب معايير الكتابة التاريخية واهتمام المؤلفون فقط بتدوين الأحداث التاريخية على صفحات الكتب؟

من الصعب تطبيق المعيار الدقيق في حالة ضعف وقلة المنتج لأن المحاولات الكتابية والبحثية في مهدها تكون في الغالب مبنية على الاجتهاد المحض سواء كان ذلك في كتابة المذكرات والمواقف والأحداث  أو البحث في التاريخ الإنساني والموروث الاجتماعي ، ومثل ذلك يحتاج لتأصيل علمي ومنهجي فكل ما نكتبه نحن ونجتهد في تقديمه في مباحث تفصيلية  يعتمد على روح الاستقصاء الصحفي والبحثي وتكمن أهميته في كونه مادة خام للباحثين وتكون منطلق لطرح متعمق ومنهجي ولنا في ذلك المثل بما دونه المؤرخ عبدالقدوس الأنصاري في كتابه موسوعة تاريخ جدة وفي ذلك منطلقاً للبحث والكتابة المهنية المتعمقة حيث لم يكن قبله ما يؤسس لذلك ومنه يتواصل الركض في مضمار الكتابة من جيل لآخر.

 

• تسمية جدة (بفتح وكسر وضم) الجيم، القاعدة تقول أن الخطأ المشهور خير من الصواب المهجور، برأيك لماذا تعددت مسميات مدينة جدة؟

نعم هذا صحيح فلم يفلح اللغويون في تصويباتهم لضم جيم جدة وإقناع العامة من الناس بصحة ضم الجيم دون حالتي الفتح أو الكسر لجيمها التي تحدث عنها الكثير  وظل الأمر كما هو دون تغيير  ، كلٌ ينطقها كما يحب ويهوى وبحسب ثقافتهم الشعبية التي تفرض كلمتها أخيراً ، فأبناء المدينة ينطقونها مكسورة الجيم وزارها من الشمال الأفريقي يصرون على نطقها مفتوحة الجيم وقلة منهم ينطقونها مضمومة ، فلا أسباب غير ما اعتاد عليه الناس في مجتمعاتهم وارتاحت ألسنتهم عليه ولا حرج في ذلك، فجدة لها شهرتها ومكانتها بحكم موقعها واهميتها ولارتباطها الوجداني  بعاطفة الرحلة المقدسة التي كانت جدة مدخلها ومستراحها ومحطة ارتحالها وحتى عودتهم سالمين غانمين إلى حيث مصادر قدومهم.

 

• هناك إجماع شبه تام بين كتب التاريخ حول نزول "حواء" لأرض جدة في بداية وجود البشرية، ما حقيقة مرقدها وصحة مدفنها في جدة؟

ما من شك بأن تتبع كتب التاريخ القديم يفضي إلى حقيقة أن الضريح المنسوب تسميه إلى أم البشر حواء عليها السلام يعد زعماً تاريخياً ليس له أصل حقيقي غير  المرويات القديمة المذكورة في كتب التاريخ  على سبيل الزعم كما يفيد بذلك ابن جبير  في رحلته المشهورة بقوله (والله بذلك أعلم) فهو وغيره كما في شفاء الغرام ووفيات الأعيان والكامل في التاريخ وتاريخ الطبري وغيرها ، وكان النقل بافتراض غير مسنود لحقيقة ثابتة لذلك هي مرويات تاريخية ليس لنا ولا علينا تكذيبها ولا تصديقها وإنما يتم استعراضها في الميراث التاريخي المنقول عن المدينة القديمة وذلك لا يقلل من عظم أهمية الحدث التاريخي الثابت في كثير من كتب التاريخ كرواية بأن أم البشر قد نزلت على أرض جدة  وسكنت فيها بعدما أهبطها الله وزوجها آدم عليهما السلام من الجنة مما يشير أن المدينة واحدة من أقدم المدن التي تستحق العناية التاريخية في البحث والتدوين.

 

• يضم "كتاب الأسطورة" كثيرا من الأساطير والخرافات التي ظل أهل جدة يتداولونها فيما بينهم عبر القرون الماضية، مثل أسطورة احتواء جدة على قبر حواء، لماذا اعتمدت في الكتاب على الحكايات والخرافات؟

لأن مدخل الكتابة البحثية كانت من منظور الخرافة والأسطورة وهو جانب له أهميته في قراءة تاريخ التفكير الاجتماعي لدى القدماء ولأن في ذلك تأطيراً أولياً وتأصيلياً في البحث عن هذا المحور الهام ولما للخرافات والأساطير من تأثير على التفكير المجتمعي وعلى الاتجاهات السلوكية عند أفراده بل هي كالصندوق الأسود في عقل المدينة الباطن الذي يحرك بوصلة الاتجاه للأسر والجماعات والأفراد والكتاب مليء بالأطروحات ، وقد ظل تأثير الأساطير والخرافات  لقرون كحمل ثقيل على المجتمعات القديمة مع بساطة التفكير وانتشار الجهل بين البسطاء من أفراده والمنهكين بتوفير لقمة العيش ومؤونة الحياة ومتطلباتها.

 

 

• برأيك، لماذا كانت جدة أرضاً خصبة لنشوء الأساطير والخرافات؟

المجتمعات القديمة لا تبتعد في تفكيرها المجتمعي عن تأثير الخرافة وليس جدة أو غيرها مقصوراً على ذلك  وعلينا أن نعي أن جدة كانت لها خاصية التنوع في موردها الثقافي والإنساني مما جعلها ثرية في مضمونها وعمقها بحكم استيعابها لثقافات البحر الذي يمدها بروافد مختلفة ومتناثرة من ألوان الطيف الإنساني إن صحّ التعبير والخرافات حلقة مهمة من هذا الفكر ولو بحثنا في مدن أخرى لوجدنا أن في كل مجتمع مخزونه المتواري عن الأنظار وتجده مفرط بالأفكار المرتبطة بالخرافة وقد أصدر عبدالكريم الجهيمان موسوعة الحكايات الخرافية في شبه الجزيرة العربية وغير ذلك من الإنتاج الفكري للمجتمعات القديمة والذي تأخذ فيه الخرافة مساحة وافرة مع طبيعة تكوين المجتمعات وظروفها إلا أن الكتابة عن هذه الجوانب المظللة يعطي ميزة للتاريخ الإنساني وأهمية خاصة في الطرح الموضوعي ، وعدم الالتفات إليه يعد نقصاً في قراءة المحتوى الفكري ف كل نواحيه وهو ما أن نتصدى له من أجل واجبنا تجاه الأجيال القادمة.

 

• حتى يومنا هذا يتبادل الناس غرائب مثيرة عن تسمية حارة المظلوم وأبرزها الشخص الذي قتل ظلما، لماذا تعددت الروايات وأيهما أقرب للحقيقة؟

تعددت الروايات والحقيقة وحدة هي أن حارة المظلوم قد نالت شهرة بفضل تلك الحادثة القديمة والتسمية التي ارتبطت بها . وقد يكون الأقرب هي قصة شيخ تقي وورع اسمه عفيف الدين المظلوم قد دفن تحت تراب تلك الحارة وسميت نسبة إليه وأيضاً فتنة أغوات المدينة والتي نتج عنها الحكم بإعدام أحد الأعيان في هذه الحارة ، ولكن ذلك يجعلنا نطرح الروايات دون تصويب أحدها على الآخر إلا عند ثبوت الحجة الراجحة والدليل الثابت .. ومع هذا وذلك فقد راجت القصة الأسطورية على السنة الناس إلى يومنا هذا بأن الدماء قد سالت على أرض الحارة لشخص قتل ظلماً حيث رسمت الدماء عبارة مظلوم وتلك اسطورة تاريخية يرددها الناس إلى يومنا هذا.

 

• في كتاب "المعماريون في جدة القديمة " قمت بتفكيك الشكل المعماري لجدة القديمة، ماهي دوافعك تجاه إلقاء الضوء على طريقة بناء جدة القديمة؟

الدافع الأساس كما ذكرت هو الحاجة إلى تناول مفردات من المكون الثقافي وتقديمه لمحبي المدينة وسكانها والأجيال القادمة وكذلك للباحثين المهتمين بالكتابة والتسجيل التاريخي فالبيت القديم هو إرث تاريخي وحضاري وحاضن للثقافة المحلية الفريدة  فليس من دافع عندي غير توثيق وخدمة الهوية الثقافة المحلية وربما كان حظي جيداً فقد لحقت بكثير من المهنيين القدماء في مجال البناء قبل أن يدركهم قطار الموت 

ودونت بفضل الله ثم بفضل وجودهم الكثير من المصطلحات المعمارية مما جعل من الكتاب وثيقة تاريخية في هذا الحقل الهام.

 

• برأيك، هل تم إنصاف "معلم البناء التقليدي" تاريخياً بما تركه من بيوت إبداعية شكلت متحفاً مفتوحاً لكل زائر يريد مشاهدة واجهات بيوت الحارات الأربع وزواياها ورواشينها ؟

قد أكون قد انصفته بكتابي والحكم للقارئ الكريم وهذا ما استطعت فعله ولكن السؤال موجه لإدارة حماية التراث في الجهات المعنية عن مشهد البيوت التي يتساقط قوامها كأرواق التوت في فصول الخريف مع تقديرنا لجهودها في إقامة المهرجانات وتنظيمها وفعالياتها وحتى لا أطيل لأن هذا الملف قد استهلك جهود ليست سهلة على أوراق الصحافة وفي وسائل الإعلام ولكن التنفيذ على أرض الواقع لا يزال ينقصه الكثير بل لم يتم فيه إلا القليل فالمنطقة تحتاج إلى جراحة عاجلة لكثير من البيوت على مختلف مستوياتها وما هو مصنف منها بحسب الأهمية التاريخية والفنية فأخشى ما أخشاه مع الوتيرة المتباطئة أن تلقى حتفها كما أدرك من بناها من الحرفيين ،والمسألة ليست صعبة ولا مستحيلة وهناك مدن كثير عربية وأجنبية لها تجربتها الناجحة لحماية المناطق التاريخية وترميمها وتشغيلها على مدى العام وليس في مهرجانات محدودة الزمن لتعود بعدها الأمور كما كانت عليه.

 

• ماهي مواصفات الأحجار ومن أين كانت تجلب وكيف كان يتم تجهيزها للبناء؟

جدة القديمة كانت ولازالت مكسوة بالأحجار في واجهاتها وهي مادة البناء الأساسية وهي من الجير المرجاني ويطلق عليها الأحجار المنقبية وتستخرج من ساحل البحر قرب بحيرة الأربعين حيث تحفر حفراً كبيرة ويستخرج منها الحجر ويكون رخواً في البداية ثم يُقص ويُهذب ويباع بالمائة وتنقل الأحجار بالعربة الكاروو يجرها حمار حتى تصل للقراري الذي يقوم بدروه بتجهيزها بآلته اليدوية وتسمى (الشاحوطة ) .

 

• عكست الرواشين ثراء ملاك البيوت ، ماهي أهميتها سواء في الواجهات الواسعة الشمالية أو الغربية، أو الواجهات الصغيرة في الشرقية والجنوبية؟

لا يختلف إثنان  بأن المتجول لحارات جدة القديمة تسرق أنظاره مشهد الرواشين التي تملأ واجهات البيوت لذلك كان الروشان يعكس حقيقة حالة ثراء سكاني البيوت ومستواهم المعيشي ويعتمد تقسيم مستوى البيت بطبيعة الحال على حجم الروشان وبروزه وحرص ساكنيه على جماليات إنشاؤه وتصميمه فهو مزروع كعظم في أساس البيت لذلك هو من مكوناته البنائية ، والروشان له وظيفة محورية بنائية واجتماعية فمسطح الروشان مملوء بثقوب جمالية تشكل ستائر خشبية ممتعة للرؤية وتسمح بمرور الضوء والهواء ، وهذه الستائر الخشبية في الروشان تحقق جانب الخصوصية الاجتماعية حيث يمكن للمرأة التجول داخل المنزل ورؤية الشارع دون أن يخدش ذلك حياءها برؤية الآخرين لها .

 

• كيف استطاع أهل زمان الابداع في تصاميم الرواشين؟

تلك براعة لازلت تتصدر اهتمامنا ، فالروشان هو التركة الجمالية الفريدة في هذه البيوت ولغة عذبة تحاكي البيوت وتبادلها الانسجام الشكلي والجمالي والذوقي لا سيما في تغطيتها لواجهات البيوت الشمالية والغربية التي تستقبل الهواء المحبب للمدينة.. وهي إلى وقتنا الحاضر تدهش المارة ويكاد الشخص منا يعيد النظر إلى جماليات كثير من الرواشين المبهرة كما في بيت نور ولي أو بيت باعشن أو نصيف أو غيرها 

واستطاعوا أن يوظفوا تلك الخاصية الفنية فهو نافذة البيت وفي ذات الوقت يتصدر جماليات بناؤه بهذا المشهد الفريد. 

 

• بيت زنيل أول بيت إسمنتي في جدة، كيف اقتنع الناس بالإسمنت وابتعدوا عن العلاقة العاطفية التي تربطهم بالأحجار؟

تلك قصة تحكي واقع التغير الاجتماعي من مرحلة لأخرى صاحبها نكران وجحود ورفض للإسمنت الحديث وكل ما يرتبط به من قول أو فعل فكيف للناس أن يغامروا بأرواحهم في سكنى بيت مبني بغير الأحجار العتيدة ويتعمد على مادة الأسمنت الجديدة التي تكتسب صلابتها مسحوق يذاب في الماء فيشتد عوده، وكيف لهم أن يقارنوه بالحجر القوي والمتين الذي قد شيدت به المدينة عن بكرة أبيها من أسواقها ومساجدها ومبانيها وحصونها وأسوارها . وقد وصل الحال في منتصف القرن الماضي إلى أن لا يسمحوا لأنفسهم بالمرور من جانب البيت الوحيد الذي غامر صاحبه ببنائه بمادة الإسمنت وهو بيت زينل القائم في سور المدينة الجمالي المجاور لباب جديد في شمال المدينة وكان الناس إذا مروا بجانبه مروا مهرولين خشية أن ينهار على رؤوسهم ليقينهم بضعف بنيانه وركاكة أعمدته وكان معلمي البناء هم من يقف خلف ترويج تلك الروايات لإقناع الناس بهذا الجديد الصناعي الهزيل الذي جاء ليسقط الحجر الأصيل والصلب . ولكن السحر قد انقلب على الساحر في نهاية المطاف فلم تعد رواياتهم منطقية ولا مقبولة فبيوت الاسمنت سهلة البناء وقوية الإنشاء وأدرك الناس تلك الحقيقة وهجروا الحجر وغدى مظهراً في تاريخها القديم وشاهداً على حضارتها الأصيلة.

  

 

Back