المعماريون في جدة القديمة - المعرفة

الكاتب: ياسر باعامر
المصدر: موقع قناة الجزيرة على الانترنت - المعرفة

يبرز كتاب "المعماريون في جدة القديمة" للكاتب الصحفي عبد العزيز عمر أبو زيد حقبة تاريخية لا تزال تشكل تاريخ المدينة الساحلية جدة، وبالتحديد في منطقتها التاريخية العريقة التي تعرف بجدة القديمة، في إشارة إلى الحارات الأربع الرئيسة وهي: الشام واليمن والمظلوم والبحر، التي شكلت المدينة داخل سورها الذي بناه أحد أمراء المماليك لتحصينه من هجمات البرتغاليين. وبقي السور موجوداً حتى عام 1947 متزامناً مع التوسع العمراني الذي شهدته المدينة.

 

رغم مرور أكثر من نصف قرن تقريباً على هدم السور إلا أن هذه المنطقة تشكل حتى اليوم اللوحة الفيسفسائية الحجازية العريقة لجدة القديمة، التي تحتفظ بخزان كبير من الذكريات، وهو ما يحاول الكاتب أبو زيد تصويره في التركيز الدلالي على رسم تفعيل "الجزئيات التاريخية" التي تميزت بها جدة القديمة، ليس بالحديث الشمولي العام للتاريخ الجداوي القديم الذي كان القاسم المشترك بين التدوينات والكتب الحديثة التي تحدثت عن جدة مدينة الثلاثة آلاف سنة.

 

بل قام أبو زيد بحالة تدوين تاريخي بعيد عن ذلك الأسلوب الكلاسيكي عبر تفكيك "الشكل التاريخي" للمدينة القديمة من خلال مشروع ثقافي بدأه بكتابه الأول "حكايات العطارين في جدة القديمة"، الذي أصدر طبعته الثانية بالتزامن مع إصداره الجديد "المعماريون في جدة القديمة".

 

وقد لاقى الكتاب استحسان الإعلام الثقافي المحلي الذي اعتبره إنصافاً لـ"معلم البناء البلدي التقليدي"، بما تركه من لوحات إبداعية شكلت متحفاً هوائياً مفتوحاً لكل زائر يقرأ تاريخ عروس البحر، ويستمتع بالتعرف على ملامح تراثها وحياة أهلها القدماء، ويتمعن في حفريات الماضي السحيق.

 

 

 

المصادر وحرب الإسمنت

 

بناء الكتاب المعرفي قام على "المصادر الحيوية" من المعماريين القدماء، في التسجيل والتدوين مع أصحاب الصنعة الأصليين الذين لم يدركهم بعد قطار الموت.

 

ويقول الكاتب إنه وثق كثيراً من الجوانب المغيبة عن مهنة "المعلم البلدي الأصيل" عبر لقاءات طويلة في فترات زمنية مختلفة استمرت قرابة الثلاثة أعوام تقريباً، بسبب انعدام المصادر المرجعية التاريخية المكتوبة القديمة والحديثة التي توثق مهنة البناء التقليدي، ليقدم للقارئ تسجيلاً لأبرز القصص والحكايات التي صاحبت مهنة البناء التقليدي، وتقاليدها وأعرافها الأصيلة.

 

المصادر الشفهية شكلت معظم الأفكار العامة للكتاب، كالمعلمين البلديين مثل حسن محول وعيسى معتوق عبد العاطي، وإسماعيل عبد العاطي ومصطفى عبد الدايم، ومن النّوارة والنجّارة المعلم عبد الله محمود سمندرة وأحمد محمد مليباري وأحمد بخاري ومحمد محمد زاكر. 

 

ويمكن القول كذلك إن كتاب أبو زيد يمنح هذه الشخصيات حقها الشرعي في الحديث عن مبان تاريخية ساهموا وشاركوا في بنائها وتشييدها وترميمها، وفي أن يبوح صانعوها بذكرياتهم وهمومهم، وأعراف مهنتهم التي ارتبطت بحياة الناس وتقاليد لمجتمع الجداوي، إلى أن ظهرت حرب "الإسمنت"، وحسم الأخير المنافسة لصالح هذا المنتج الجديد في معركة البناء والتغيير.

 

ويبين أبو زيد تفاصيل "حرب" البناء التقليدي مع مهندسي الإسمنت، واصفاً إياها بأنها "كانت حرباً بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، واستمرت لفترة تزيد على عشرين عاماً، وانتهت بهزيمة المعلم البلدي، وجميع أعوانه ومساعديه، حين اقتنع الناس بجدوى الإسمنت كمادة حديثة وقوية للبناء، وطأطأت الهزيمة برأس المعلم أرضاً، وسقط كبرياؤه، وظل حتى يومنا هذا مرمماً للبيوت الآيلة للسقوط، ومعالجاً لأعطابها وعيوبها".

 

 

 

ويكشف المؤلف أن هذه "الحرب" شكلت مرحلة جديدة لحياة المدينة وسكانها، بعد هدم سورها، بالانتقال من الحياة الشعبية البسيطة إلى الحياة المادية المعقدة، ومن جدة القديمة إلى جدة الجديدة، ومن الحارات الشعبية إلى الأحياء الحديثة المعقدة.

 

وتأتي أهمية هذا الكتاب كونه صدر في وقت انتهى فيه زمن البناء التقليدي، ليقدم حكايات نادرة عن أول محكمة خاصة بقضايا البنائين، واتفاقية التعامل مع المتمردين، والوصفة التي تمنح البيوت صفة الخلود، وتفاصيل بناء أول بيت إسمنتي في جدة، واتفاقية العشاق الشهيرة لمقاطعته.

 

 

 

التقسيمات والمصطلحات

 

تقاطعات مهمة نجح الكاتب في تدوينها ببناء قاعدة هرمية في توصيل الإرث التاريخي لأصحاب هذه الصنعة عبر توسيع دائرة حكايات عالم البناء التقليدي، ومما ساعد على ذلك كثيراً طريقة التقسيمات الموضوعية للكتاب التي تساهم في ترتيب أفكار القارئ، بالاعتماد على مهنة الصحافي الاستقصائي التي أتى الكاتب من بوابتها الصحافية، بإفراده قصة كاملة الأركان لكل فكرة جديدة عبر فصول عدة، مما يجعل كل فكرة موضوعاً مستقلاً بذاته، باستخدام لغة "الكتابة الصحافية".

 

وهذا ما جعله موضع نقد لدى عدد من المؤرخين المختصين في تاريخ مدينة جدة، ورأيهم في ذلك أن اللغة التي كتب بها الإصدار صحافية مبتعدة عن أساسيات كتابة التدوينات التاريخية، إلا أن المدافعين عن أبو زيد رأوا في كتابه صفة نجاح كتابي، أوصل من خلالها الدلالات التاريخية لذلك الماضي بأسلوب "مبسط وشيق"، خاصة أن الكتاب اشتمل على عدد من الصور التي تظهر المؤلف مع عدد من أصحاب الصنعة الأصليين، إلى جانب صور أخرى لطرق البناء التقليدية.

 

كما يضع في نهاية كتاب "المعماريون في جدة القديمة" فصلاً مهماً أكمل به فكرته الرئيسية من الكتاب، وهي "المصطلحات المعمارية التقليدية للبنائين في مدينة جدة قديما".

 

 

 

منذ الصفحة الأولى يقرر الكاتب في الكتاب صورة واقعية عن البيوت القديمة كمفصل مهم في تشكيل قائمة الذكريات التي تركها المعلم البلدي في واجهات بيوت الحارات الأربع التي شكلت تاريخ هذه المنطقة (المظلوم، الشام، اليمن، البحر) وزواياها ورواشينها، التي دافع عنها باستماتة، ويمكن ملاحظة ذلك من الألفاظ المستخدمة في توصيف ذلك باعتبار أن تواريخ هؤلاء الرجال لن يلغيها الزمن ولن تشوهها الشيخوخة مهما امتد بها العمر وتراكمت عليها السنوات وتلاطم عليها الإهمال.

 

فقيمة هذه الرسومات الفنية -بالنسبة للمؤلف- تتزايد عاماً بعد عام، وولادتها مع مرور الزمن تؤكد عراقتها وأصالتها وتعطيها أحقية الشهادة على الأزمان والأحقاب والحضارات التي مرت على المدينة حتى تحقق هذا الانسجام في التواصل عبر التاريخ.

 

بعض الحكايات

 

"القراري" هو أهم شخصية قريبة من المعلم، وهو من يقف خلف ستار نجاح المعلم البلدي في أداء مهنته، باعتباره دعامة أولى في البناء التقليدي.

 

ويعد شخصية خفية تلعب دوراً غير ظاهر ودونه لا يستقيم حال المهنة، فإذا كان البناء قائماً على الحجر، فالقراري هو صانعها ويعمل لإعدادها وقصّها وتحديدها وتهذيبها بواسطة آلة "الشاحوطة" اليدوية، وهي لعبة القراري التي تعتبر الوحدة الأساسية في بناء البيت القديم.

 

أما أحجار البناء فهي الحجر المنقبي (وهو حجر جيري مرجاني مستخرج من ساحل البحر قرب بحيرة الأربعين)، وله متعهدون خاصون يقومون باستخراجه ويبيعونه بالمائة، وتكون رخوة في بداية وضعها وغير متساوية، ثم يقص ويهذب، وكان استخدامها يعود إلى ندرة استخدام الخشب.

 

من القصص التي تعتبر مصدر تنظيم في أداء عمل البنائين والتي اتفق عليها الجميع عند أي بيت من البيوت: الأول اسم صاحب البيت والثاني اسم المعلم البلدي الذي شيده.

 

فتنسب للأخير القدرة الإبداعية والتصميمية، وكانت سمعة المعلم مهمة في بناء البيت والخطأ الذي يحدث من المعلم في عمليات البناء يؤثر على سمعته وقد يسقطها تماماً ويخدش مكانته بين زملاء مهنته إذا كان الخطأ فادحاً ومعيباً، وهو ما يعرضه لمحكمة البنائين حيث يلجأ صاحب المنزل أو المشروع إلى شيخ المعلمين الذي يحكم فيه، فإذا ما كان الخطأ من المعلم البلدي، يجبره على إعادة البناء وإصلاح الخطأ.

 

كان السلوك السائد في تعامل المعلم مع مساعديه وعماله هو الانتقاد للأعمال التي يكلفهم بها، فعينه الناقدة بحكم الخبرة المهنية العالية لا تبتعد عن موقع الخطأ ومكمن القصور والخلل.

 

ومن اللطائف التي أشار إليها المؤلف في هذه الجزئية تحديداً هو اتفاقية التعامل مع المتمردين في هذه المهنة، حيث تؤكد تقاليد هذه المهنة أن يعمل الصنايعية والعمال تحت مظلة المعلم الذي أدخلهم بلاط هذه المهنة وعلمهم أصولها وأسرارها، ولكن إذا أراد أحدهم الانفصال عن معلمه لينضم إلى آخر، فإنه سيجد كما يقول أبو زيد موقفاً صلباً من جميع المعلمين يقضي بعدم تشغيله في فريق عملهم مهما كانت الحاجة إليه، وسيحكم عليه من الجميع بطرق أبواب مهنة أخرى بعيداً عن مهنة البنائين، ففي قانونهم الصارم يعتبر ذلك تمرداً مرفوضاً لا نقاش فيه أبداً.

 

أما صناعة الزعامات في هذه المهنة أيضاً فلها طقوسها ومناخاتها، فإذا رأى المعلم في أحد عماله (يسمون في ذلك الوقت صبياناً)، أنه آن الأوان لولادة معلم جديد بين الطبقة الرئيسية وذلك لموهبته ونجومية إنتاجه، ليكون مهنياً مستقلاً بذاته، يقوم معلمه بتقديمه لكبار رجال المهنة للإعلان بفخر عن كون تلميذه الذي بدأ حياته المهنية على يديه منذ أن كان صبياً ينقل الأحجار وعاملاً وصنايعياً والآن ينقله إلى فضاء المهنة متباهياً به، ويضعه في امتحان عملي يقدمه لأكبر رجالات المهنة كمعلم مستقل.

 

والعملية هنا لها إجراءات ومستويات للتقييم لا تتوقف على قناعة المعلم بمفرده لاستبعاد عنصر الميول الشخصي، وإنما ذلك يخضع لمشورة جماعية يشترك فيها رجال أفضل وأشهر المعلمين تحت رئاسة شيخ طائفة المعلمين لاتخاذ قرار بإجازته بصفة رسمية، بعد أن يشاهدوا أعماله ويقيموها ويطلقوا حكمهم المصيري، فإذا نجح أقاموا له حفلاً في مكان شهير للمعلمين في "مقهى أبو القعود" واحتفلوا به، ويسمى ذلك الاحتفال بـ"صبة القهوة".

Back