يتفق الناس على أمرين هامين عند حديثهم عن أي بيت من البيوت ، الأول اسم صاحب البيت والثاني هو اسم المعلم البلدي الذي شيده فكان نتاج يديه ومحصله أفكاره ، فتنسب له القدرة الإبداعية والتصميمية .. ولصاحب البيت سخاؤه ورغبته في ظهور البيت بمستوى لائق .
والبيت كان يمثل شخصية المعلم من جانب العمل الفني ويعطي صورة لرغبة وتطلع مالكه في مستوى سكنه فينفق لإنشاء البيت بقدر استطاعته كتوفر العناصر الشكلية الجمالية سواءً من الخارج أو من الداخل فإذا كان البيت جميلاً ارتاح أهله وارتاح الناس لرؤيته وكان المعلم الذي بناه محط إعجاب وطلب وسؤال ، وإذا كان البيت مجرد مسكن لا يملك قيمة فنية ولا إبداعية ، كان هذا المعلم مجرد عامل أخذ أُجرة بنائه.
لكن سمعة المعلم تهمه هنا قبل أي اعتبار آخر وأهم ما يحرص عليه هو ظهور البيت بشكل أنيق وبارع فذلك يعكس قدرته المهنية والذوقية وفكرته الإبداعية ويجتذب أنظار المارة وأحاديث الناس للبيت الذي بناه ، أي أن البيت الجديد كان في المدينة الصغيرة يعبر عن حدث محلي اجتماعي وولادة وجه جديد بها .
إعجاب الناس واستحسانهم للبيت يعني التفاتهم لأعمال بناها سلفاً ، كأنهم يعيدون اكتشافه بعد كل عمل رائع لاقى استحسانهم في سماء هذه المهنة التي تسجل تاريخ الإنسان وترصد مسيرته وتفكيره وعاداته وتقاليده وثقافته المحلية وامتزاجها بالثقافات الإنسانية الأخرى.
والخطأ الذي يحدث من المعلم في عمليات البناء يؤثّر على سمعته وقد يسقطها تماماً ويخدش مكانته بين زملاء مهنته إذا كان الخطأ فادحاً ومعيباً ، فهذه السمعة هي أغلى ما لديه .
وإذا أخطأ المعلم في بناء البيت الذي يبنيه نتيجة إهمال أو عشوائية فإن صاحب المشروع يستطيع اللجوء إلى محمد مصري شيخ المعلمين آن ذاك فيسبب له إحراجاً مزعجاً ينال من سمعته ومكانته وتُعرف هذه الحالة ب ( العيبة ) فيأخذ شيخ المهنة أفضل وأكثر المعلمين خبرة للحكم على حقيقة الشكوى أو العيبة لمعرفة وتحديد الخلل الذي سبب اصطداماً واختلافاً بين معلم البناء وصاحب المشروع ، ويقدمون المشورة إلى شيخ المعلمين بصفة لا تحتمل التأخير .
وإذا ثبت الخطأ من المعلم فإنهم يجبرونه على إعادة البناء وإصلاح الخطأ وهو حق تقتضيه المهنة وأعرافها وعاداتها وحينها يكون المعلم مجبراً على تنفيذ حكم وقرار طائفة المهنة ووجهة نظره يضمرها ويلغيها إنصاتاً ورضوخاً لقرار الطائفة .
وهذا موقف حساس بطبيعة الحال ويرتبط بكرامة الشخص وكبريائه فقد يُزال ماء وجهه لو كابر وماطل وحاول الإطالة والاعتراض على حكم أبناء مهنته وقد يكون إصراره وتماديه على خطئه سبباً في خروجه من المهنة نهائياً .
وربما لا يستطيع ذلك المعلم لفترة ممارسة الترويح النفسي مع زملائه في قهوة أبو العقود حتى لا يسمع مالا يرضيه ولا يفتح زملاؤه موضوع هذا الخطأ وأسبابه ومبرراته لأن فيه تشكيك في خبرته وتقليل من مكانته .
فقد يدلي البعض بخبراتهم تجاه هذا الخطأ مثلاً كان بإمكان المعلم تجاوز الخطأ بفعل كذا وترك هذه الطريقة واتباع أخرى ، وهذا يجرح مشاعره ويضعف حالته المعنوية ، وحتى لو استمع لهذه الانتقادات فهو يستقبلها صامتاً في قهوة أبو القعود دون أن يجادل ويقدم التبريرات وهو يدرك تماماً بأن الأجدر به أن يعيد الخطأ إلى صوابه بعد أن ثبت عليه ويحفظ كرامته المهنية .
وهذا يعد سبباً من أسباب حرص معلم البناء على عمله ودقّته وإجادته ورغبته في تصحيح كل ملاحظة أو خطأ يستنتجه أثناء البناء وهو في الأصل عاشق للمهنة متذوقاً لها ومفتوناً بحالاتها الإبداعية.
الخلاف وارد الحدوث بين المالك وبين الصانع والحرفي ، المالك يرى بصورة والمعلم بأخرى ولكن الذي يحدث غالباً أن المالك لا يتدخّل كثيراً في عمل المعلم إلا فيما يتعلق بجوانب تخصّ ظروفه الأسرية مثلاً كتقسيم البيت الداخلي أو رغبته في تقديم مواقع فسيحة للضيوف وغيرها من الجوانب التي تتعلق بسكناه.
وشيخ المهنة هنا لا يشكل في نفسية المعلم أي خوف بكل الأحوال أو سلطة معنوية بأي شكل من الأشكال ولا يخشى رأيه الشخصي ولكن في حالات معينة يرتعب من اتفاق المعلمين بإيعاز منه على خطأ ثابت وقع فيه ، حيث يكون الرأي والنتيجة حكماً يكتسب شرعيته وقوته بإجماع الآخرين واتفاقهم عليه فإما الرضوخ والقبول أوّ مغادرة بلاط المهنة ويعلن بذلك نهايته للأبد ويغادر إلى مهنة أخرى يرتزق منها ، وهذا فيه هزيمة لا يمكن قبولها لعشاق المهنة وقياداتها وإذا حدث هذا فإن أحداً كائناً من كان لن يتعامل معه وسيحذر شيخ المهنة جميع المتعاملين مع المهنة بعدم التعامل معه نتيجة خروجه على تقليد مهني صارم وشديد .
كذلك فإن أعراف المهنة وتشريعاتها تكون في صالح المعلّم في أحيان أخرى فمثلما تقضي بمجازاة المعلم عند ثبوت الخطأ ، تحفظ كرامته في حالات كثيرة لا يكون له ذنباً في حدوثها ، خاصة عند اختلاف المعلم مع صاحب البناية أو المشروع لأي سبب من الأسباب ، مثلاً عدم اقتناع صاحب المشروع بأسلوب بناء المعلم وطريقته وكانت لديه رغبة شخصية في تغييره ووضع بذلك حداً بإنهاء التعامل معه واختيار من هو أكفأ منه .
وعلى الجانب الآخر يُفاجأ صاحب العمارة أو المالك أنه لا يملك من أمره شيئاً ولن يقدم ولا يؤخّر في شأن عمارته التي سيتوقف نموها ولا يمكن إكمال مسيرة بناءها مهما تعصب لموقفه وأصر على استبعاد المعلم وإنهاء عقده ، وسيشعر في نهاية المطاف بالندم على هذا الإصرار أمام أعراف المهنة وتشريعاتها ، في هذه الحالات فإن قانوناً يلزم صاحب المشروع على الاستمرار مع المعلم ذاته مهما بدت الأسباب التي طرحها في حالة عدم ثبوت خطأ أو تقصير وإهمال.
ومن الطبيعي أن يبحث المالك عن معلم آخر ويبدأ بالذهاب إلى شيخ المعلمين ولن يجد من يتعاون معه فعلياً فمعروف عند جميع المعلمين أنه اختلف مع المعلم دون سبب مقنع ومن المشين للجميع أن يمد أحد منهم يد التعاون معه ، وعلى الجميع في هذه الحالة أن يتعذّروا بأي أسباب كالانشغال في عمل آخر أو أي حجج تمثل موقفاً جماعياً لمساندة رفيقهم الذي تعرّض للمهانة في تقديرهم وفق ما تمليه عليهم أصول المهنة وأعرافها .
وعموماً من العيب في هذه المهنة أن يتابع أي معلم عمل زميله الآخر لأي سبب مهما بلغ ، إلاّ في حالة وفاته فقط احتراماً لوجود بعضهم فالأمر والحكم يكون مختلفاً تماماً عن حدوث اختلاف أو نزاع بين الطرفين.
إذا لجأ مالك المشروع إلى معلم آخر غير الذي بدأ معه البناء فإن اعتذاراتهم تحتمل صفة التمجيد لزميلهم الذي تعرض مشروعه إلى خلاف وتعارض في وجهات النظر ويصورون له خطورة وهمية تضطره إلى العودة لمعلم البناء الأول مهما كان الخلاف بينهما فيقنعونه بصرامة وحزم بأن في الأمر مخاطر على سلامة البناء من منطلق أن لكل شيخ طريقته وأسلوبه في البناء وإذا اجتهد بعضهم في إكمال عمل الآخر فربما تكون النتيجة ذات كوارث قد تتسبب في حدوث انهيارات في أساسات البناية لأن لكل معلم بناء طريقته الخاصة ومعالجته المتفردة في مواجهة مشكلات البناء لذلك فالمخاطر تحتم عودته إليه ومصلحته تجبره على فتح صفحة جديدة معه وتناسي الماضي وإلا ستكون الخسائر فادحة ومزعجة .
وهنا يكون المالك مرغماً لمراضاة معلمه الأول بكل ما يستطيع من وساطات ومبررات يقودها أصدقاء مقرّبون أو أشخاص لهم مكانتهم عنده أو مراضاته بهدية قيمة أو مبلغ من المال بغية مواصلة البناء من جديد ومتابعة العمل الذي توقف حيث تعود العلاقة على أساس من الاحترام والتقدير وذلك بمثابة درس سيكون له نتائجه في علاقات المعلمين بملاك المباني، لاسيما أن المعلم يكون بانتظار عودة المالك بعد فترة قصيرة وهي كفيلة بتعريف المالك هذا القانون المهني الذي لا يسمح بتجاوز أحدهم على الآخر لمجرد الاختلاف الشخصي الغير مبرر .
وهناك حادثة يمكن تسجيلها للاستدلال والاستشهاد على تعاطف المعلمين فيما بينهم في هذا الجانب لأن فيها قوتهم وترابطهم ووفاءهم لبعضهم فهناك معلم بناء تعرض للسجن وانقطع بطبيعة الظروف عن مواصلة البناء ، وسعى المالك إلى البحث عن معلم آخر يتابع له مشروع البناء وهو محل عذر الجميع.
ورغم أنه معذور أمام جميع المعلمين والضرورة هي التي دفعته لذلك لكنهم يعتذرون بحجة عدم القدرة على المواصلة خشية الوقوع في خطأ قد يصيب البناية بالانهيار لاختلاف سياسة كل معلم في عملية البناء مما يشكل خطراً على الأساسات وهم بذلك يحرصون على مصلحة زميلهم المتغيب ولا يريدون أن يزيدوا همومه مواجعه ويسلبوه حق إكماله لمشروع عكف على بنائه.
وعلى حد تعبير المعلمين فهم لا يريدون أن يكسرون رأسه بعد خروجه وامتنع الجميع عن التعامل مع مالك البناية حتى اضطر إلى الذهاب لإدارة السجن ودفع الغرامة المترتبة على إطلاق سراحه وتم فعلاً لهم ما أرادوا وتمكن زميلهم من الخروج من السجن لبناء البيت وتحقق لكل طرف ما أراده.
وهناك واقعة شهدها مجموعة من المعلمين بقيادة المعلم خليل عليمي فقد عرضوا حياتهم للخطر من أجل دفع ( العيبة ) عن مكانة المعلم عليمي وخبرته الطويلة فقد تحمل المعلم ومساعدوه وعماله احتمال وقوع البيت بأكمله على رؤوسهم وعاشوا ساعات خطر ورعب هددت حياتهم في أي لحظة بموت محقق .
والواقعة بدأت بظهور علامات سقوط البيت أثناء عملية ( تعليقه ) أو إعادة تأهيله وترميمه ، وذلك بأن البيت بدأ يقذف أحجاراً من أعلاه إلى أسفله معطياً إنذاراً شديداً وواضحاً بسقوطه كذلك فإن الأخشاب التي تعترض جدران البيت التي تسمى بالتكاليل أصدرت أصواتاً أو طرقعات تهدد بسقوط الجدران وتحطمها ، واتجه لحظتها المعلم عليمي إلى باب البيت وأحكم إقفاله بالترباس ، ومنع الجميع من الخروج بحكم القوة خشية ضياع سمعته بين المعلمين لو علموا بالأمر، وعملوا بسرعة مرتبكين في مشهد كاد يودي بحياتهم تحت هذا الخطر المحدق والموت المحقق على معالجة الخطأ وإصلاحه قبل أن ينهال البيت بأكمله ، ولم يكن أمام الجميع إلا العمل على ذلك وإلا فالكارثة نتائجها مؤكدة على الجميع .
وعملوا خلال ساعات من بعد الظهر وحتى صلاة العصر على إصلاح الخلل في أحد الجدران وتمكنوا من تعليق البيت بعد أن كان الخطر يهدد رؤوسهم مع تساقط الأحجار .
فالموت داخل البيت مشرف ويسجّل موقفاً يحفظ كرامتهم وإباءهم ، أمّا الهروب والخروج ففيه الهزيمة والاستسلام لهذا الخطأ الجارح الذي يشكك في صحة البناء . فوقوع العيبة على مجد المعلم المهني لا تقل عبئاً وألماً عن وقوع الأحجار على رؤوسهم جميعاً .