اولها نحات واخرها شحات 2

الكاتب: عبدالعزيز عمر ابوزيد
المصدر: جريدة المدينة

سقط المعلم البلدي ، باني الأحجار المنقبية التي تتسم بها جميع بيوت جدة القديمة بعد حرب و منافسة شديدة استهدفت شخصية المعلم و هددت أحجاره المنقبية ، ذلك بظهور أول بيت إسمنتي و هو بيت آل زينل بالقرب من باب جديد عام 1348هـ ، و بعده بيت أبو داوود و إبراهيم شاكر . 

و تفاجأ الناس بهذه البيوت و طريقة تشييدها و بنائها مندهشين من هذه التجربة المثيرة و الغريبة التي خاضها بعض السكان ، و هم في نظر الجميع في ذلك الحين من المغامرين الذي رموا بأموالهم لدخول تجربة الإسمنت الجنوبية الخاسرة . 

و هذا شأن كل شيء جديد في حياة الناس يهدد ماضيهم و تراثهم ، فيقابلونه بدايةً بالاستنكار و الامتعاض و عدم الاعتراف ، و يهدأ مع الأيام ذلك الرفض مع نسيان الناس لماضيهم شئياً فشيئاً ، لأن تعصب الناس للبيوت المنقبية كان يزداد حرارة لارتباطه بالماضي الذي يمثل التراث و السمة التي يتميز بها الجميع .

فالحجر أقوى و أجمل و أبهج لأن كل البيوت تتسم بطلائه و قيامه و هو ليس مجرد حجر بناء إنما هو مادة ترتبط بشكل جدة القديمة و تعبر عن واجهتها ، و انتشار المنقبي لا يسمح بقبول الناس لغيره بديلاً أو مقارعة الإسمنت باي حال ، فهو علاوة على قوته و رخصه و جبروت صناعته اليدوية نحتاً و إخراجاً يرتبط بذكريات الناس و امنياتهم و تاريخهم .

كل الناس يسيرون بجانب البيت الإسمنتي الحديث بحذر شديد و يكابر من يدخله في بداية قيامه و نهوضه و صعوده و كان الناس يحاربون انتشاره كأن هذا الانتشار يهاجم عادة من عاداتهم الأصيلة و تقليداً من تقاليدهم الراسخة ، و أن ترك المنقبي هو أول إشارات لمغادرة جدة القديمة بالتدريج البطيء ثم السريع بعد اقتناعهم بصلاحية الإسمنت كمادة البناء الأساسية بدلاً من الحجر المنقبي بكل ارتباط له في أذهان الناس و ذكرياتهم .

و مع التدريج اقتنع الناس بالإسمنت و صلاحيته و سهولة البناء بطرقه الحديثة و المطورة و السريعة ففرد الإسمنت و انتشاره و هيمنته على الموقف كاملاً و أصبح الناس عن بكرة أبيهم يطلبون استخدامه في بناء منازلهم و تشييدها .

 و بقي قلة من المعلمين حتى وقتنا الراهن مستلقين على تلال البيوت المنقبية ينتظرون و يعيد ذكرياتهم و مكانتهم المفقودة ، منهم المعلم البلدي حسن محول و أحمد بخاري و محمد أحمد مليباري و عيسى معتوق عبدالعال و عبدالله سمندر ، فهم يعيدون إنشاء البيت البلدي أو إصلاحه و ترميمه أو الكشف حالته بالأسلوب التقليدي ، و من سابع المستحيلات أن يطلب أحد منهم الآن عملية بناء بيت جديد بطريقتهم البلدية ، إلا قلة من عشاق التراث القديم يطلبون تشكيل واجهات بيوتهم بالحجر المنقبي رغم استخدامهم الإسمنت في تشكيل الواجهات ، إلا أنهم يمارسون البناء بنفس المواد و الأدوات التقليدية و النسج المعماري التاريخي .

من يطرق بابها

و لهذه المهنة طقوس و عادات و تقاليد ، منها أن العامل محكوم عليه أبديا أن يعمل بإخلاص تحت لواء المعلم الذي علمه أصول المهنة و مرسه أولوياتها و فنونها و لا يستطيع أن يعمل أو ينتقل للعمل مع معلم بلدي آخر إلا بإشارة معلمه و موافقته و رضاه . 

و إذا رغب أحد العمال أن يحسن مستوى عمله و أدائه في ممارسة المهنة يجتهد مع معلمه مندفعاً بعشقه و رغبته يطلب منه الاستقلال مهنياً ليصبح بلدياً بعرفه الناس ، ذلك باعتراف جميع المعلمين له بعد طلب معلمه منحه ذلك اللقب و تقديم مقدرته و تميزه و رغبته و عشقه للمهنة بعد مراحل التدريب التي أتمها بنجاح ، و يجمع المعلمين و يعرض عليهم نماذج من رسوماته و أفكاره و أبرز البيوت التي ساهم بدور فعال في أفكارها و تصميماتها و بنائها و إذا أعلنوا عن رضاهم و قبولهم له كعنصرٍ جديد في المهنة و واحد من المعلمين البلديين ، يعلنون بعد ذلك تقليد (( صبي القهوة )) في مقهى أبو القعود و يشربونها من دلة واحدة كإشارة على القبول الجماعي له و صبة القهوة هو إعلان صامت للناس على أعمال المعلم البلدي الجديد و قبول أفكاره و منحه الاستقلالية عن معلمه السابق ليكون اليوم قائداً في مهنة البناء يشار إليه بالبنان و التقدير و يتناقل الناس هذه المعلومة الهامة و يباركوا له هذا النجاح في هذا الامتحان المصيري الذي أضاف شخصية جديدة تنسب نجاحها و تفوقها و استقلاليتها لمعلمه الذي دربه و لقنه أصول و فنون المهنة .

و المعلم يواجه أخطر مهنة تمزج الذوق و الحس الفني بلغة القوة و بمكن أن تذهب بحياته في أي عملية يقوم بها لتنفيذ افكاره و رسوماته ، هذه الخطورة التي تريه الموت في أي عملية تجعله يفكر عند الإقدام لتنفيذ أي مشروع بناء ، أن يبدأ أولاً و قبل كل شيء في تحديد موقع نعش و غسيل صاحب السكن بعد وفاته ، فإذا وافاه الأجل يستطيع ذووه غسيله في دهليز البيت و وداعهم له في بيته الذي بناه في حياته ، و يحقق المعلم ذلك دون رغبة صاحب البيت بإزاحة موقع الدرج لآخر الدهليز أو مدخل البيت لتستوعب المساحة نعش و دكة الميت ، و يتم الأمر على حساب الدور الأرضي بشكل عام .

عيدان الدومة و القندل

و أهم ما يميز بنايات المعلم البلدي هو (( التكاليل )) و هذه التكاليل هي عيدان خشب الدومة أو خشب القندل و تعترض هذه العيدان جدران البيت المشيدة بالأحجار المنقبية و كأن المبنى يبدو مخططاً بالعرض ، و هذه العيدان تعطي المؤشر الأول للمعلم على قوة البيت و حالته و قياس مقدرته على الصمود و الاستمرار ، هل هو بحاجة إلى صيانه أم أنه لا يزال راسخاً ثابتاً ، فكلما كانت العيدان مستقيمة بنفس حالتها الأصلية كان البيت في نظر المعلم و حساباته قوياً و صامداً و إذا تمايلت العيدان أو تقوست أو تغير شكلها يبدأ المعلم بالكشف و البحث عن حالة البيت بدقه اكثر و معاينة أقرب .

و إذا تبين أن أحد جدران البيت قد أصابها تشقق أو تفتت و استاء حالها فيقوم المعلم بالكشف عن سر قديم في مهنته و ذلك بتعليق البيت و إسناده على أعمدة خشبية ترتكز على تكاليل البيت القديمة و كأن البيت يبدو متكأً على عكاكيز خشبية .. هنا تتضح أهمية التكاليل في المحافظة على البيت و إعادة ترميمه و تأهيله كلياً .

و تعلن هذه التكاليل بشكل قاطع عن إشارات سقوط البيت و وقوعه و انهياره ، فإذا لاحظ السكان أصوات ((فرقعة)) أو ((طرقعة)) في هذه العيدان الخشبية و ظهرت علامات تفتتها و تكسرها ينصح السكان بمغادرة البيت فوراً لأن أصحابه أهملوه و لم يعيروه اهتماماً مما أدى إلى تفتت و تكسر التكاليل .

و استطاع المعلم أن ينجح في معالجة ارتفاع نسبة الرطوبة بعد أن توصل إلى فكرة تشييد المنازل المرتفعة نسبياً ذات الفتحات المركزية ، و أن يحدث داخلها تياراً هوائياً مستمراً و يخفف بذلك أيضاً من حرارة الجو المرتفعة بتلك النسمات الباردة و خاصةً منها القامة من الشمال الغربي ، و أدخل فكرة الروشان في البيت المنقبية ليسمح بتهوية الغرف و يكسر من حدة الضوء .. بينما تستطيع النساء بوجود فكرة الروشان التنقل دون إحراج و مراقبة الصغار أسفل المنزل دون أن يظهر وجهها للمارة .

ستظل هذه البيوت شاهدة لصانعها داخلياً و خارجياً ، و قد لا يحتاج المعلم مع مرور الزمن إلى الاعتراف الخارجي أو التقدير الداخلي لأن وجوده لن يستمر طويلاً ، فقد يتناقص بالتدريج و يرحل عن جدة القديمة كما رحل عنها بقية رجالها ، لكن المهم بأن تلك البيوت تظل الذاكرة المتحركة على مر الأجيال تؤكد استمرارها و براعة أفكار المعلم و رسوماته الأسطورية.

 

Back