وقع مسعود الذي لم يأخذ ولم ينل من اسمه نصيب في فخ تجارة الأسهم بعد مغريات زينت له خطواتها بالورود وحيكت له خيوط أحكمت حلقاتها لاستدراجه كشبكة عنكبوت لا ينجوا منها إلا بالوقوع في براثنها
فكيف لا تغريه إلى أجواءها المثيرة وصالاتها الصاخبة وفيها أمنيات الحالمين بالثراء وأحلام الواهمين بالأرباح المكوكية السريعة ورجاءات الكادحين والموظفين والمتسببين بانقلاب حالهم من فقر غنى إلى ومن غنى إلى ثراء فاحش ، فمن قلة ذات اليد والحاجة والعوز إلى وضع مختلف فيه وفرة المال وحسن الحال ورخاء العيش ورغد الأمنيات
فقد قرر مسعود أن يسلك درب خطاها ويتهجى أبجديات دروسها ، مسعود كان موظفا محسودا بين أقربائه وأصدقائه في حي الرويس وسط جدة فهو بينهم من ذوي الدخل يتقاضى مرتبا شهريا ستة آلاف ريال شهريا وهو مرتب لا يحلم به كثير من أصدقائه فإذا التقى بهم في مقهى أو مطعم يكون مم المعيب أن يتركهم يشاركوه دفع فاتورة الحساب الزهيدة فأفضل ما فيهم رفيق طفولته سعد يمتلك تاكسي خاص ويرى نفسه من الأعيان من شدة اعتزازه بسياراته الأجرة أما البقية فمن معقب إلى مراسل إلى حارس أمن مدني وما إلى ذلك من أعمال بسيطة لا تترك لأصحابهم فرص النمو السريع لتحقيق ذواتهم وتطلعاتهم نحو مستقبل تتحسن فيه أوضاعهم المعيشية
لكن روح المغامرة التي يؤمن بها مسعود مشروعه منطقيا لمن في مثل حالته فكيف له أن يحقق أمنياته ورغباته ويرتقي بحياته المعيشية بلا ضربة حظ يبحث عنها ويسعى إليها ويخطط لها فإما حياة تسر الصديق وأما ممات بغيط العدا كما يردد بين الفينة والأخرى أو كما كان يردد : من يهب صعود الجبال يعيش ابد الدهر بين الحفر
فليس هناك ما يندم عليه من فوات فرص أو ضياع وقت أو سلطان أو جاه يمتلكه فلا يمتلك من حطام الدنيا ما يسد رمقه غير مرتبه الشهري الذي يتقاضاه وله أوعية إنفاق لا تتوقف عن التهام النصيب الأوفر من ومقتطعات شهرية لا يمكن له الانصراف عن سدادها مثل قسط السيارة وأقساط بعضا من الآثاث المنزلي ودفعة الإيجار المستقطع بصفه شهرية غير مصرفات المشتريات الاستهلاكية والمعيشية الضرورية لأفراد أسرته فكأنه محسود لكونه قادر على تحقيق نقطة التعادل بين احتياجاته مصروفاته ومستلزماته الشهرية
كان يستمع لزملاء له في الوظيفة البنكية يتحدثون برموز غير مفهومه وطلاسم جمل وعبارات كأنها أسرار لها رطانتها الخاصة بهم ، ولفت انتباهه دعواتهم البهيجة نهاية كل أسبوع في الأغلب لتناول وجبة عشاء فاخرة في مطعم أسعاره باهظة ومبالغ فيها لكنه كان يستنتج من حديثهم أن تجارة ما تدور بينهم وتحقق لهم أرباحا خيالية تفوق قدرته على وصولها دون عين يأخذ بيده الى طريقها الفسيح ، حيث تتنامى تجارتهم مع كل إشراقة شمس جديدة لأرقام جديدة تزيد من نسبة أرباحهم التي تتضاعف شهرا بعد شهر حتى كاد يفكر أنها ذات علاقة بالمحرمات ومحظورات البيع غير المشروعة
إلى أن أفصح له احدهما بحقيقة تجارتهم التي راجت وحان لهم الوقت لركل الوظيفة بالحذاء الخرب فلا تستحق أكثر من ذلك لما تخلفه من متاعب وما تجنيه لهم من هدر للوقت وضياع للجهد وفوات لفرض الأرباح المخملية بأحلامها الوردية السعيدة
كانت تجارتهم تدور في الأسهم فقد وضعا مبلغا متواضعا نما وزاد وكبر وأزدهر حتى بلغ الملايين من الريالات ولا زال الطموح قائما وساحة الاستثمار بها خضراء كزهو مؤشراتها التي إذا اخضرت ألوانها تعالت الضحكات وبرزت الابتسامات وتنامت زغاريد أفراحهم بتبريكات الشكر لكل من دلهم على طريق أرباحها ومسلك تجارتها الطموحة
أما إذا احمرت وهدأت مؤشراتها وانخفضت معدلات نموها وتراجعت عن مواصلة الارتفاع بالأرباح إلى الأعلى تجد كل منهم قاطبا حاجبيه وتغيب عنه ابتسامات التفاؤل ويكثر بينهم قول (لو) فعلنا (لو) تركنا (لو) بعنا أو انسحبنا وما إلى ذلك من تأوهات كلمة لو وكل ما تسقطه من وقع سلبي في نفس الطامح إلى النجاة من أي خسائر محتمله لأمواله المتنامية
لكن الشاشة الزاهية لقطاعات تجارة الأسهم كانت لا تترك لهم هما للتراجع ولا تغيير الحكم على المراهنة على استعادتها سريعا لوجها المتألق الذي سرعان ما يكتسي بموجات خضراء جديرة بالتفاؤل وتجديد الثقة في سوقها المثير
مسعود كان أكثر ما يؤلمه وهو منغمس في أحلام سوق الأسهم انه لم يتعرف عليه مبكرا لينخرط في الاستثمار به وركوب أمواجه مع المبحرين من قبل ونالوا بمغامرتهم جزل الأرباح التي لا تخطر على البال فمن مائة ألف ريال إلى مئات الألوف من الريالات ولا تحتاج وقتها إلا إلى آلة حاسبة لاحتساب نمو أرباحك اليومية والأسبوعية والشهرية فقد استمع إلى احدهم أن الفقر قد ابتعد عن داره بفضل سوق الأسهم ولو كان للفقر صاروخا جويا فلن يتمكن من اللحاق به لان أرباحه تجاوزت عشرات أضعاف رأس ماله الأساسي
وهذا ما انطبق عليه حال مسعود فقد أصبح في اقل من عام مالكا لأكثر من مليون ونصف ريال بينما مبلغه الحقيقي لم يكن يتجاوز المائة ألف ريال حصل على جزء كبير منه نتيجة قرض بنكي لدخول تجارة الأسهم حتى تحقق له الغرض من المتاجرة والمضاربة في شركاتها وقطاعاتها ولكي يقتطع شيئا من كعكة الاتجار بها مع دخول معظم الناس لها حتى أصبح حديثها ومتابعتها ومراقبة خبرائها ومحلليها هو الشغل الشاغل لكثير من الناس وباتت موضوع الساعة في حياتهم
في ذلك الحين الذي لا يمكن لمن لا يجيد ممارسة لعبتها أن يندمج في حديث مطول وممتع حتى بين أفراد أسرته فالكل دخل سوق الأسهم حتى النساء من الأرامل والمطلقات والعجائز لم يتركوهم وحالهم فقد باع الكثير منهم ما يمتلكون من ذهب ومجوهرات للانسياق خلف وعود أرباح الأسهم وبريق غيومها الملبدة بأمطار الأرباح الوفيرة الرائجة
وكل من له حكمة في القول عنها بما يسوء محذرا ومقللا من شأنها يسومونه سوء الاتهامات بأنه عميل وحاقد وحاسد ومندس ليعطل تدفق ينبوع الأرباح الوثيرة المتواصلة بالعطاء الرحب
بلغ مسعود ما بلغه من أرباح ساوت الملايين من الريالات فحل في يقينه اطمئنان بزوال مرحلة الخطر من حياته فقد تجاوز خطوط الفقر ولكل من يعيش معه من إفراد أسرته فما عاد الفقر يقرب من داره ولم تعد مصاريف الحياة اليومية ومتطلباتها ترهق تفكيره أو تشغل باله بل كان يرمي مئات الريالات عند ارتياد مطعم لتناول وجبة غذاء سريعة وخاطفة
ولم يفكر مسعود كحال غيره من الحالمين برخاء الحال واستمرار إغداق مؤشرات الأسهم بمزيدا من الارتفاع أو حتى الثبات عند حد من العطاء يحقق لهم العائد المرجو فلا يمكن لهم تصور أن يكونوا خارج دائرة الاسهم بعد كل هذه الأمنيات التي تحققت في أرجائها وعلى بساط سوقها السحري الذي مد لهم طوق النجاة للخروج من عباءة بساط الفقر والتعاسة والنحاسة وسوء الحال إلى حال من الرخاء وسعة الرزق
أصبح مسعود يستمتع بسرد ذكرياته القديمة الساكنة في عقله الباطن حيث الصندوق الأسود فهو الآن في هذه المرحلة بعد تخطية حاجز الفقر قادر على احتواء على الجانب المظلم في حياته من ذكريات ومواقف ولم يكن في السابق يجرأ على الاقتراب منه وفتحه والبوح بما في داخله من هموم وأسرار وآلام قديمة ، فقد توفى أبوه وهو طفلا في التاسعة من عمره وتربى حزينا في منزل خاله لا يسد أحيانا كثيرة رمق جوعه الحارق في هجيع الليل القاسي في الوقت الذي يستمع فيه لخربشة زوجه خاله تطفح كميات من الطعام إذا أدركها الجوع في ساعات متأخرة من الليل فقد كان منزل خاله يشهد عراكا مستنزفا ومؤرقا لنفسيته المتحسسة لمجريات الأمور في بيت خاله فزاد كيل توبيخها وتأنيبها وسخريتها لوالدته المكلومة بفقد رفيق دربها
ما اضطر مسعود وأمه إلى الانتقال للحياة في رباط للعجزة وذوي الحاجات ومن انقطعت بهم المسافات ورمت بهم الأقدار في هامش الحياة فلا عائل يلوذون به ولا رحيم يجود به الزمان فيسد عوز حاجتهم
الآن بمقدور مسعود إخراج ما بداخل صندوق الذكريات الأسود والبوح بما في داخله فقد كافح ونافح وناضل حتى قبض على فرص الحياة بيديه غير مكترثا ولا مباليا بما ستسفر غنه من حروق وندوب ولسعات حارقه فلم يخاطر ويغامر ويدخل صعاب المتاجرة والاستثمار من باب التسلية والترفيه وأشغال وقت فراغ بل من إصرار اجبره ماضيه على تخطي الصعاب وخوض غمار أي طريق ينجيه من حالة الفقر التي من الممكن أن تتسلل إلى حياته ضيفا ثقيلا مزعجا يفسد كل جميل في حياته
فالآن والملايين تتراكم في حسابه البنكي المتخم بالأرباح اليومية في سوق الأسهم الزاهي قال كما سمع ذات يوم من يردد بان الفقر لن يقرب من داريه ولو كان يملك صاروخا فلن يلحق بي فالذين يتعرضون للخسائر واحتمالات الانهيارات المالية والفشل التجاري من المخاطرين وحديثي العهد بمجال الأسهم ، أما هو ومن في حكم حالته فقد نمت خزينته بالملايين فمن نجا بأرباح طفرتها فقد نجا بفيض اربحها فانتقل إلى عالم من الثراء ويترك لغيره من المهمومين وتعساء الحال وبؤساء المصير الانشغال به والتفكير فيه أما هو فالي العالم الآخر وعيشة السعداء حيث تنامي الأموال وازدهار الأرباح ورخاء الحال
وكلما تحدث مع غيره من المنغمسين حتى أخمص القدم بفضاء الأسهم الأخاذ والمثير فيقطعون على أنفسهم عهدا غير مكتوب وهو ميثاق شرف للمرابطين على شاشات الأسهم بعدم تركها والخروج منها فلا تزال يانعة الخضرة جزلة العطاء وافرة الأرباح متنامية التماسك نحو الاتجاه المتصاعد فلا ينتابهم حيرة ولا خوف لهوية مصيرها وانقلاب حالها ومن يلمح بشيء من تشاؤمه بمستقبلها القريب المفروش بزهور أحلامهم كأحلام العصافير يشنون عليهم انتقادهم اللاذع كحال المدمن فلا يري الأشياء من حوله إلا بعدسة أحلامه وأمنياته
وكان بعض العقلاء يطلقون تشبيهاتهم على حال أولئك المنغمسين في عبث تجارة الأسهم بخضراء الدمن الحسناء الطيبة في المنبت السوء ، فمصيرها محكوم بفساد الحال في مكمن المفسدين ووسط دارهم كذلك ، كان تشبيها واقعيا لحال أؤلئك الواهمين بأرباح الأسهم كالكرام على موائد اللئام لا يؤمن لهم جانبا ولا يرتجى مهم خيرا ، فهم من يخيطون شباكها لاستدراج الحالمين والطموحين ويهيئوا لهم مساكنهم في ربوع أجوائها المتحفزة وفي ربيع خضرة عطائها
يقول مسعود ذات يوم انه ظل يقفز في الغرفة التي كان يخصصها لمتابعة شاشات الأسهم كما القرد الشنبنزي ويصدر أصواتا لم تفهم منها ابنته الراشدة وهي تلاحظه شيئا ، فاستأذنت بالدخول أكثر من مرة فلا مجيب فاضطرت إلى فتح الباب والدخول لعله في حاجه إليها في شيء ما ، فالأصوات والحركات مصدرها من غرفته فوجدت أباها يقفز كما القرد بجنون ولم تطمئن على سلامة حاله إلا بعد أن هدأ واستكان فبشرها بنبأ لم يكن جديدا عليها سماعه بحال تتنامي وتطور أرباحه في كل يوم ففي ذلك اليوم اخبرها بأن ربحه في ساعة ونصف فقط زاد عن المائة ألف ريال وهي صيحات الفرح وقفزات السعادة كمشجع رياضي متعصب سجل فريقه هدفا ثمينا مكنه من تحقيق نصر مؤزر
كان يقهقه من شده الضحك في جلسات الصحبة التي تجمعه بالمحبين من الأصدقاء عندما يتحدث كل منهم عن حاله من تصرفات لا تصدر من عاقل نتيجة الانغماس من شعر رأسه وحتى أخمص قدمه بأجواء الأسهم كالتائه فيبحث تارة عن جهازه المحمول لدقائق ويصيح لصغاره بسرعة البحث عند فتغمز له ابنته الكبرى أن ما يبحث عنه ملقيا أمام طاولته الخاصة وببروز فاضح يعكس جنون حركي لا يترك له قدرة على التركيز ، وذات مره ظل يفتش عن مفاتيح سيارته وهو في يديه ممسك بها دون إحساس ولا دراية كأنه يبحث عن غيرها ولا يصدق من يتعايش معه مثل هذه التصرفات التي تعبر عن شرود ذهني متناهي وعجيب تنتهي في كل حالة بتجديد النظرة على انه سينتهي به هذا الحال إلي مخبول ربما ينتهي به المطاف لو زادت الأمور عن حالها الطبيعي إلى اقتياده لمستشفى الصحة النفسية
وأحيانا يزأر ويزجر كأسد كاسح وهائج إذا أخطأ احد أفراد أسرته أو حدث خلل بسيط لا يستدعي أي انفعال يذكر غير التوجيه السطحي والشفهي لكن تتضح الأمور في نفسه انه خارج الحالة الطبيعية بالمبالغة الزائدة عن الحد في الانفعال بما يعكس وضعه في السوق بين ارتفاعه للأعلى وانخفاضه للأسفل
والذكي شديد الذكاء هو من يكتشف مفتاح الدخول لتلك الأجواء فيديرها كيفما يشاء والى أي اتجاه يريد ، فإذا اخضر السوق وأينع فاطلب منه ما تريد من من وسلوى فلن تجد منه غير الرد بايجابية مفرطة حتى ل كان طلبك كحمولة بعير فلك مرادك ولن ترتد إلى مكانك خائبا مخذولا
أما إذا واجهته بمطلب بحمولة فأر وفي شأن هامشي في وقت انتكاسة حالة مع تردي وضع السوق وانخفاض مؤشراته واحمرار وتدني أسعار شركاته فستكون النتيجة حتما سلبية الرد وبتوبيخ ونقد ونظرة سلبية تعبر عن حال صاحبها
اجمع متابعوه على تسميته بالمضارب الهمام لشراسته في تعاطي متغيرات السوق ومستجداته فهو ككثير من بسطاء المجتمع قد أشغلتهم دنيا السوق بطموحها المتوهج فقد كان أثناءها يخطئ في تسمية صغاره وإذا طلبت زوجته شراء احتياجات منزلية من خضروات وأدوات تنظيف ومواد كهربائية يستنزف وقتا في البحث عن الورقة التي دونت له فيها المطلوب من المستلزمات فيفقدها كعادته المتكررة ويكون المشهد ملفتا وهو يسير في أقسام السوبرماركت متحدثا بصوته المرتفع عبر جهاز جواله فيعيد تسجيل الطلبات شارد الذهن منشغل البال وإذا ترك لحاله الاجتهاد بتذكر شيئا من الطلبات فتكون المأساة بعينها في تفاوت وتباين ما احضره عن ما كلف بإحضاره فإذا نادته بإحضار كرتون يعود في لمحة البرق بجالون زيت من العافية
فلو استقبل مسعود من أمره ما استدبر لكان أول الخارجين من السوق بأرباحه العامرة ومكاسبه الطائلة ولا درك أن لكل شيء من نهاية وان هكذا تجارب جنونية لا تمس الواقع بصلة وتمر في حياة الإنسان كطيف قوس قزح في فصل الشتاء لا يلبث أن يستمر لمحات إلا ويرحل عن سماءه بعيدا دون ان يستسقي أرضه ويورقها بالزرع
فقد هوى السوق وسقط كسيل نزل من رابية فجرف كل ما ترك من حرث ونسل وخيرات ومروج بسرعة ما يحدثه السيل في اكتساح لكل ما يقف أمامه ويكون للناجين وقتها حسن الطالع وموفور الحظ لأنهم نجو بأبدانهم من ذلك المد الطاغي والسيل الجارف
لقد دمرت قطاعات السوق بهبوط الأسعار إلى حدود مهلكة لا تبقي ولا تذر له من إرباحهم شيئا بل ونزحت إلى تحقيق خسائر لأملاكهم الحقيقية فعاد مسعود وغير المئات بل الآلاف من عشاق الأسهم والمخلصين لاستثماراتها حد الهوس بخفي حنين بعد أن قلبت حالهم من فقر إلى غنى ومن شظف الحياة إلى رغد العيش ورفاهيته وهي اليوم تعيدهم إلى سيرتهم الأولى فقراء كما كانوا بعد أن سلبتهم أرباحهم وأموالهم وأوقعت الكثير منهم في ديون طائلة ومستحقات بنكية قادتهم أطماعهم إليها
كان مسعود قد أغشته الصدمة الطارئة إلى حالة من عدم التصديق لما يجري ويدور حوله من نكسه أشبه ا تكون بحرب طاحنه أخرجت الناس من ديارهم وأوطانهم فكأنه في كابوس طويل لا يكاد ينقطع ويتوقف فقد اكتست ملامح وجهه بذبول صفره تغطي جميع ملامحه فيبدو لكل من ينظر إليه مصابا يفقرا دمويا خطيرا يصاحبه انخفاض سريع في وزنه الذي كان منتشيا بالأرباح ومتضخما بنمو مدخراته
كأنه يمر برجيم قاسي جدا قد تم قطع جميع إمدادات الغذاء عنه غير ما يسد رمقه من النذر اليسير من الطعام والشراب يقوده إلى هزال جسدي ممرض إذا لم يستحب لحاجة جسده من تناول الأطعمة المغذية غير أن الطعام يطلبه فيوضع أمامه فلا يقوى على التهامه لما تركه انهيار الأسهم من انقباض في نفسه يرده عن تناول ما لذ من أطايب الطعام والشراب
فعاد فقيرا كما كان وقطع إجازته الاستثنائية التي طلبها لعام اظهر خلالها حكمته في عدم ركلها الوظيفة بطرف احدي قدميه كما فعل آخرون من المنغرين بطيف الأسهم وما يلقيه لهم من خيرات وأرباح يانعة
فقد عاد مكسورا كأسد جريح وكسير لا يقوى على الصيد الجائر ولا يهابه منافس كان يرتعد لوجوده في قمة هرم الغابة بلا ملك يبحث عنه فضلا عن إدمان حالة الهذيان لما انقطع عليه من طموح ومستمعا ما يتردد من محيطه أن مكسبه الحقيقة في بقاء صحته بحالها السليم لان غيره كثير أصابهم من السقام والأمراض ما الله به عليم
كان ذكيا انه أدرك ولو كان متأخرا ان الشتم وإلقاء جميع أنواع السب لمن تسببوا في خسارته والاستيلاء على ملايينه بانهيار سوق الأسهم البغيض لا يقد ولا يؤخر فقد طرات الطيور بارزاقها ، ووصل إلى الحقيقة وان كان متأخرا انه عاد إلى حالة الفقر وعليه التعايش مع ظروفه فأن تصل متأخرا خيرا من أن لا تصل ابد
فقد تيقن انه وغيره من الفقراء الذين تحقق لهم الغنى على بساط الأسهم وفي رحاب شاشته الخضراء الزاهية قبل أن يحل عليها كابوس اللون الأحمر الدموي المتشائم انه مثل حب الدقيق الذي لا تدور طاحونة الحب بدونه ولا تنتج طحينه إلا بتوارد الجديد منه وكيف للأغنياء أن يتحقق لهم الثراء الفاحش بلا حب طحين يمتصونه من دماء الكادحين والمأسورين بأحلام المستقبل الوردي المرسوم لها بعناية فائقة على شاشات الأسهم وسوقها ، فيجرونهم كما الكباش الأوباش تحت مسيرة قطيع منساق بانصياع مستحب ومستطاب لمن يحركها دورانه القطيع واتجاه حركته ، فالأثرياء لا تتضاعف مدخراتهم إلا بتسيير مسيرة القطيع إلى حيث يريدون إلى مجزرة النحر اقتيادا إراديا غير مرغما ولا ملزما بدافع الطموح القاتل ووقود الأمنيات الهلامية برغد العيش ووفرة المال وتغير واقع الحال
وكلما مر من القوت زاد اليقين ووضحت مصداقية الاستشهادات بصحة استنتاجه البريء أو بنظرية الطحين لا مثاله السائرين خلف من يلقي لهم بمغريات الأرباح كفخ يحكم مريدوه إلى مصيدة أطماعهم والتي ستلقيهم عند نهاية المطاف كما كانوا أو كأسوأ ما كانوا ، فقد شهد هو وغيره تجارة ظهرت وانتشرت بسرعة الريح يضحك لها ذوي الاختلال والعقلي من طرافتها وسذاجة من طرحوا أفكارها لكنها ومع بلاهة وضعها انسحب خلفها البسطاء بقضهم وقضيضهم لمطاردة ما يكتنف وجدانهم من طموح فائر نحو بلوغ مجد أرباح المال بلا طائل
وكانت الفكرة في بحث بعض المغرضين من التجار لمكائن الخياطة المنقرضة منذ نصف قرن من الزمان لاحتواءها على مادة الزئبق الأحمر التي لا تقدر بمال وتحولت الأنظار وتسلطت الأضواء إلى هذه الآلة القديمة فقفزوا بأسعارها إلى مئات الألوف من الريالات فأنقرض وجودها تماما بعد انقراض استخدام الناس لها من القدم حتى غدت المتاجرة بها شغل من لا شغل له في سيناريو متكرر فتنموا أموال الأغنياء وتتجدد دماء ثرواتهم على حساب الطامعين لمشاركتهم بلوغ دولة المال كأنهم بشعورهم الفطري ورغيتهم البريئة يقودون انقلاب على دولة أغنياء لا يحق لهم استمرار حكمهم إلا بإفقار وإفلاس من يحاولون مشاركتهم حكمهم عل ممالك أموالهم
كان مسعود يصيح بأعلى صوته بمكر هذه المكيدة وبمكر تجارها الذين نصبوا فخا غبيا وساذجا ومضحكا لبلاهة فكره وفجاجة مخططه لكن طموح الكادحين والغلابة نحو بلوغ الغنى ليس له حد من البلاهة والغباء فليس أمامهم ما يخسروه من ماضي لا يسر ولا يجلب باسترجاعه السعادة والحبور
ويكرر كل منهم في كل تجربة تسحب المزيد من الضحايا إلى طاحونة الأغنياء والأثرياء شعارات تشجيعية لا تعيدهم للنظر إلى الخلف : فمن يهب صعود الجبال يعيش ابد الدهر بين الحفر وفاز بالملذات من كان جسورا فإما حياة الصقور في الفضاء الرحب او يتم بقية عمره لا مطأطأ الرأس يلتط ما بين قديه وشتان بين استسلام الجاجة وجهجعتها وبين كبرياء الصقر وشموخه