أولها نحات و آخرها . . شحات!!

الكاتب: عبدالعزيز عمر أبوزيد
المصدر: جريدة المدينة ملحق الأربعاء

أولها نحات و آخرها . . شحات!!

أولها نحات و آخرها شحات . . مقولة كان يسخر و يتذمر منها المعلم البلدي في حديثه الشيق ، شارداً من عشقه و ذكرياته . . نحات : فنان ينفذ فكرته بعضلاته : يرسم فينحت على الحجر : ينفس عن موهبته بفعل القوة في يديه . . شحات : نثر فنه فقاده الى فقدان كل شيء : بنى البيوت فجلس متربعاً على تلها ، يناظر يراقب أي عاشق لها أو معجب بطريقة بنائها بعد أن أصبحت المباني الإسمنتية الحديثة هي سيدة الموقف .

فهو شحات يملك مواهب فنية ، و فنان قاعد أحيل للتقاعد إجبارياً ، الكل يعترف بقدرته و جبروت صناعته لكنه مجرد اعتراف شكلي لا يعني الإيمان بها أو التعامل معها و أفضليتها على الموجود و المنتشر مهما كان فاقداً القيمة و الأصالة .

أجمل ما في جدة القديمة بيوتها ، و أجمل ما في بيوتها ذكريات المعلم البلدي التي تسجل في تاريخ جدة القديمة بأحرف معدنية صلبة لا يزيلها و لا تشوهها الشيخوخة مهما امتد بها العمر و تلاطم عليها الإهمال . 

رسومات المعلم البلدي لا زالت معالم فنية تاريخية ناهضة ، قيمتها تتزايد عاماً بعد عام في الوقت التي تتناقص فيه قيمة صانعها بهجران جدة القديمة عموماً ، فالمعلم البلدي لا يزال جالساً عل تل البيوت التي بناها بالأحجار المنقبية و الخلطة البحرية بحاجة الى من يستدعيه من أشلائها ، فهو يقل بالتدريج و يتناقص مع عدم الاهتمام و في طريقه الى التحنيط ، و هو الى الآن موجود لصيانة البيوت التي بناها . . يعيد تأهيلها و ترميمها و إصلاحها و معالجة مشاكلها ليس أكثر . . فلا يستطيع أداء هذه المهمة غيره لأنه العارف بأصولها و شؤونها و هزاتها . 

شهادة الخبير العالمي 

وقد استضافت جدة قبل أعوام نخبة من الفنانين و المهندسين العالميين و كبار المسؤولين عن حماية التراث و المناطق التاريخية في إيطاليا لإعداد دراسة تطوير جدة القديمة و صيانتها و إعادة تأهيلها لتكون ذاكرة متحركة لجدة القديمة و الجديدة . 

دخل الفنانون و المسؤولون العالميون جدة الجديدة و شاهدوا كل ما فيها من إمكانيات و تطور و إضاءة و سفلتة و ميادين و كبارٍ و قصور و منتزهات فلم تتغير ملامحها و سحناتها فقد رأوا ما هو أبهر و أبهى من ذلك بكثير و ما هو أعظم بكثير ..

و دخلوا جدة القديمة زواراً  . . و مشوا في أزقتها و تعرفوا على حاراتها و مآثرها و شاهدوا بناياتها التقليدية المبنية بالأحجار المنقبية من الداخل و الخارج ، فصمتوا طويلاً و هم يشاهدون و يستكشفون منبهرين معجبين بجمال المدينة الصغيرة و طابعها التقليدي التاريخي فقد اضاقت الى ذهنهم جديداً و الى مشاهداتهم و خيالاتهم إحياءً بديعاً يتسم بالبساطة و العذوبة و الشعبية . 

و أثارت تلك الدراسة فضولهم و نهمهم و استعلامهم عن أصل و تاريخ تلك البيوت و الأنامل التي وضعت رسوماتها و جعلتها حقيقة دائمة على مدى هذه السنين الطويلة . . و تناسوا حديث المسؤولين و لغة الاجتماعات و جلسات العمل ، و فضلوا أن يسكنوا في البيوت و أن يتخاطبوا مع المعلم البلدي مباشرةً ليشبعوا رغبتهم في التقرب منه و سؤاله و محاكاته فهو محور ارتكاز دراساتهم المطلوب إنجازها عن مستقبل جدة القديمة ، لن تنجح الدراسة و تقدم جديداً إلا بأفكار المعلم و آرائه و مقترحاته و انطباعاته ، فالدراسة ستقوم على أعماله التاريخية و منجزاته و بناياته الشعبية الاصيلة التي استمرت مئات السنين و يمكن لها أن تستمر قروناً قادمة لو حظيت برعاية المعلم و احتضانه .

ذكرني ذلك بمشهد قديم لازال عالقاً بذهني ، حينما كنا نشاهد اسراب الخواجات المهتمين بالتراث ينتشرون في جدة القديمة ليشاهدوا التحف المعمارية ، فيختار كل فرد منهم ركناً في زقاق بسيط أول تحت بيت شعبي ليرسم لوحة فنية أو يلتقط صورة فوتوغرافية بديعة ، و تثير تلك المشاهد إيحاءاتهم و خيالاتهم بالتلقائية و البساطة فيحلقون بالحس الفني الى نسيج البيوت و طبيعة الأزقة و حكاياتها الشعبية . 

لم يكن أمام الوفد الإيطالي إلا أن يوصل أفكار المعلم الى المسؤولين و يكون مجرد حلقة وصل بين الطرفيين ، و يشهدوا بالخنصر و البنصر و الوسطى و السبابة و الإبهام عن هذا المهندس العبقري الذي تاهت به ظروفه و أحواله ، و ان هذه البيوت لم تستمر طوال عمرها الطويل عبثاً أو صدفةً عابرةً و إنما استمرت لأن أساساتها متينة و سماتها الجمالية رغم شعبيتها تستحق أن تنال شهادة عالمية رفيعة  . . فهي مدينة بكر من حيث الدراسة المعمارية التاريخية و لو عرفها الدارسون جيداً فسيجعلون من المعلم البلدي (( المهمل )) حسب ما دعت إليه الحاجة ، مثاراً للدراسة و الطرح و النقاش .

و كان يكفي للمعلم هذا الاعتراف الدولي من شخصيات معترف بها ليرفع هامته قليلاً أمام أبناء الجيل الجديد.

الصراع الإسمنتي 

كيف سقط المعلم من حساب هذه المهنة ، و فقد الوجود الكامل من المدينة القديمة .

فكان في أوج شهرته الى حين ظهور بداية غزو الإسمنت و صراعه مع المباني المنقبية التقليدية ، و كان المعلم في بداية ذلك الصراع أكثر أهمية من المهندس و الطبيب و الطيار اليوم  . . لأنه يعالج أحلام و أمنيات الرجال و ينفذها الى أرض الواقع ، و هو (( الهم )) الجديد القديم (( البيت الملك )) الذي يلم الشمل و يجعل صاحبه ينام فاره الإحساس مهما كان شقياً و تعيساً ، مرتاح البال مهما كان منشغلاً و مهموماً ، سيداً مهما كان أجيراً و تدنت أحواله المعيشية .

كل ذلك يتم بإشارة المعلم البلدي و إعلانه الموافقة ببدء تنفيذ المشروع و يقود فريقه المكون من مساعده القراري و هو قاطع الأحجار المنقبية بواسطة آلة تسمى الشاحوطة ، و الخلاط الذي يخلط الماء بالطين فيصنع الخلطة البحرية ، و المروج و هو ناقل الأحجار من القراري الى المعلم البلدي . 

فالإضافة لعدد من المعلمين المساعدين للمعلم الكبير أثناء رص الحجر و تخطيط البناء و تنفيذ الرسومات . 

و هذه المهمة قد تستغرق سنوات عديدة و ليس أشهراً قليلة لأنها تقوم على سواعد الرجال  . . رص الحجر و نحته و رفعه و فعه و دحرجته ، كل عمل يتم بقوة اليد و خفتها  مهارتها و البيت يمكن أن يكون قصراً كبيت نصيف أو بيت بسيطاً كبيت شمعون ، البيوت أو القصور التي شيدها المعلم مثل نصيف و ذاكر و الجار و باعشن و باجنيد و نور ولي و الشربتلي و غيرها باقية و شامخة يزداد جمالها و أصالتها مع مرور الأجيال و ارتباطها بتاريخ المدينة .

 

جريدة المدينة ملحق الأربعاء

21\3\1419 هـ

Back