قد تكون البيوت في جدة القديمة من أغرب البيوت وأصعبها فهمًا وأكثرها عمقًا وتعقيدًا في تحديد خصائص وعادات وتقاليد المجتمع. فنظام القراريط المستخدم قديمًا لتحديد ملكية البيوت القديمة وقياس مساحاتها يعكس جانبًا من الترابط الحميم بين البيوت، فالبيت كان له أكثر من مالك، الناس في السابق لم يكن لديهم طموح عقاري وتفكير تجاري حول المسكن وبيع وشراء البيوت، ولا ينظرون إلى مردوده المادي على سبيل الاستثمار في هذا المجال. وكان نظام القراريط يتيح منح الآخرين أجزاء من ملكية البيت فإذا بنى شخص بيتًا مكونًا من دور واحد على سبيل المثال غالبًا ما يفضل اختيار جيرانه في نفس المسكن وهو قرار ليس سهلًا اتخاذه كونها شراكة حقيقية بين سكان العمارة الواحدة.
فيختار هذه الشخصية التي تشاركه مرّ الحياة وحلوها من الأقرباء المقربين أو الأصدقاء الودودين فيمنحه جيرته بإهدائه مساحة الدور العلوي (السطوح) شريطة أن يبني له ولأسرته بيتًا، فالبناء يكون أسهل وغير مكلف ماديًا طالما أن الأساسات موجودة والبنيان قائم ومشدود فيكسب جارًا في وقت الشدائد وصديقًا محبًا تستمر محبته مشتعله بوقود هذا الاهداء الذي لن يُنسى فضله مدى الحياة دون أهداف ربحية ولا مقاصد مادية. وإذا تحقق ذلك وبنى قريبه أو صديقه الدور العلوي فيكون حريصًا على تسجيل ملكيته بنظام القراريط الذي يثبت ذلك رسميًا.
وإذا لم يسارع على تسجيل البيت باسم ساكن الدور الثاني فإنه يحفظ حق التسجيل لأبنائه أو ورثته من بعده، وجميع الناس يعترفون بذلك ويعرفون بملكية البيت بطريقة النظام المتبع لأن الإهداء سيكون معروفًا ومكشوفًا أمره بين الجميع. ومعنى أنك تهدي شخصًا المساحة العلوية في المجتمع القديم أي أنك تأسره محبةً وتتملكه بهذا العمل البار طوال حياته وهي لفتة أخوية تنطلق من رغبة إنسانية ينشدها الجميع تتمثل في بناء بيت ملك، وهي محبة ليس بعدها محبة وإخلاص ليس بعده إخلاص وعلاقة مكسبها لا يقدر بمال.
جدة القديمة لا تزال ترصد بيوتًا بعضها يكون من ثلاثة وأربعة طوابق كل طابق له مالك مستقل والإهداء بالتالي هو عادة حميدة بين السكان للمساحات المتاحة والغريب أننا نجد بيتين متلاصقين بينهما فاصل جداري واحد ومتساويين في الأدوار وإذا أراد أحدهما الصعود وبناء دور علوي فيجاوز حدود سطح منزله إلى سطح منزل مجاور وعليه حينها أن يستأذن صاحب البيت المجاور في رغبة الدخول على مساحة من سطحه منزله لغرض التوسع فيضم جزءًا منه أو كله إذا رغب. فهناك اعتقاد قديم بأن تلاحم البيتين من الأعلى سوف يزيد متانة وقوة البناء بهذا الاتصال الاجتماعي الحميم.
الخارجة بلكونة الأمس
ومن الجوانب الملفتة في البيوت التاريخية في مدينة جدة وجود الخارجة وهي عبارة عن جزء من الدور مفتوح للهواء ويكون واجهة تستقبل الهواء أو الرياح المحببة لسكان المدينة وتستخدم للنوم وتجمع أفراد الأسرة مساءً وكذلك لإعداد الطعام وتجفيف الملابس، الخارجة أشبه ما تكون بالبلكونة في البنايات الحديثة غير أن الخارجة لا تتيح الرؤية لمن هم في الخارج وبالتالي تحافظ على الخصوصية الاجتماعية لسكان المدينة، ويستخدم السكان الخارجة للمبيت صيفًا كما كانوا يستخدمون الأسطحة للنوم في أجواء الصيف الحارّة.
والخارجة هي بلكونة الماضي التي تحافظ على الخصوصية الاجتماعية وتمكن النساء من الحركة والتجول دون حرج والجلوس فيها بالساعات والنوم فيها صيفًا، وليس كحال البلكونات بوضعها ووصفها الحالي فلا يستفاد منها إلا لأغراض التخزين أو في حالات نشر الغسيل وهو دلالة على تقليد العمارة الأجنبية دون تحديد الاحتياجات ومراعاة عادات وتقاليد المجتمع.