التاريخ يتحدث عن البيوت القديمة التي ظلت صامدة مئات السنين، متألقة بجمالها وروعتها ودقتها ومتانتها، تتجدد وتستعيد صفاتها التاريخية، مهما تأثرت وتأثر مظهرها الخارجي بتلف أو خراب. هذه الوصفة التي تمنح الخلود للبيوت القديمة هي طريقة تسمى بالتعليق (تعليق البيوت) وهي تبدو غريبة قد لا يصدقها عقل للوهلة الأولى لكنها تدلّ على جبروت الصناعة القديمة.
فالبيت يكون فعلًا معلقًا كما تعني الكلمة على أعمدة خشبية أو متعكزًا عليها إن صحة العبارة وذلك أثناء عملية الترميم، العملية تتم بإسناد أعمدة خشبية قوية على جدران البيت بعدها يتم تعليق البيت على هذه الأعمدة وتتم إعادة بناء الجدار المصاب ولو حدث أي خطأ أثناء عملية التعليق فستكون انهيارات حجرية متوقعة ويصبح البيت بكل أدواره وأحجاره حطامًا على الأرض.
القصة تبدأ منذ بداية قيام البيت حيث يركز المعلم تركيزًا أساسيًا على وضع أخشاب تعترض الجدران عند عملية البناء تسمى بالتكاليل والذي يدقق النظر في بيوت جدة القديمة يجد أن العوارض الخشبية هي سمة سائدة لجميع البيوت كبيرها وصغيرها والفخم والمتواضع منها، فالجدران تبنى على هيئة (مداميك) أي قِطع من الأحجار تفرش عليها تلك العوارض الخشبية وتسمى عيدان القندل أو الدومة أو العرعر بين كل مترين إلى ثلاثة أمتار. وتسمى تلك العوارض بـ(التكاليل) وهذه التكاليل تمثل حزام الوسط للبيت وتشد قوامه وتوزع الأحمال على جدرانه وأدواره بصورة متزنة، مما يساعد على إتزان البيت واستقامته.
وهذه التكاليل تمثل علامة إنذار مبكر للجدران في حالة حدوث شرخ أو ميلان أو تفتق أو شطوب لأنها تعطي إشارتها السريعة والأكيدة للمعلم، فيقوم بفحص هذه التكاليل بين كل فترة وأخرى بهدف معرفة أي تغير أو انكسارات أو اختلال قد تظهر عليها فيتيقّن بأن خللًا ما أصابها كتشقق أو حدوث (بعجة) كما يعرفها المعلم.
وهي عملية خطرة جدًّا على حياة المعلم ورفاقه من الممكن أن تودي بحياة جميع من في الدار إلى الهلاك الحتمي بالإضافة إلى مخاطر سقوط الأحجار كنتيحة طبيعية متوقعة جراء عملية هدم وإعادة بناء الجدار المعطوب وهي أحجار كبيرة وضخمة، ومثل هذه الأعمال متكررة في مهنة البناء القديم باستخدام الأحجار مما يكسو القائمين على المهنة شجاعة وبسالة مشهودة في مواجهة المخاطر مهما كانت لأنها ستكون صغيرة أمام مهمة تعليق البيوت الخطرة جدًّا. وليس هناك من سبيل لإصلاح الجدران أسرع وأضمن لإعادة البيت إلى وضعه ودفع خطر السقوط والانهيار عنه سوى بعمليات التعليق، ويعود البيت كما كان حديثًا لأن التغيير كان جذريًا لمكان الخلل بتغيير الجدر كاملًا ويعاد بناؤه بأحجار جديدة بفضل وجود التكاليل أو العوارض الخشبية.
البيوت القديمة وبفضل شكل ومظهر هذه التكاليل تبدو مخططة عرضيًا بشعار واحد، هو لون عيدان القندل بالإضافة إلى اتفاقها على الأحجار المنقبية والنورة التي تغطي جدران البيت باللون الأبيض، فالبيوت من الخارج ذات شكل مشترك وموحد رغم فوارق مستوياتها وفخامة بنائها. والمعلم دائم البحث والاهتمام بهذه التكاليل يشتريها قبل أن يبدأ البناء وهي عنده تساوي وزنها ذهبًا للوظيفة الفنية المهمة التي تؤديها، أما لو (طَرْقَعْ) أو (طَقْ) أو (طَقْطَقْ) البيت أي أصدرت هذه العيدان الخشبية أو العوارض أصوتًا نتيجة تحطمها وتهشمها وتكسرها وتهتكها في أي دور من الأدوار فإن هذا هو إعلان سريع جدًّا لضرورة مغادرة البيت وإخلائه من السكّان بأمر من المعلم ليس فيه رجاء أو استجداء لأن البقاء يهدد حياة السكان والجيران والمارة.
حينها لا يكون داخل البيت سوى المعلم وفريقه يبحثون ويتابعون جدران البيت لتحديد موقع الجدار الذي أُصيب ببعجة شديدة خاصة لو كانت الطقطقة يصاحبها رمي أحجار من الأعلى فهو احتمال سريع بسقوط البيت مما يعني سرعة البحث عن الموقع المصاب. وغالبًا ما يحذر المعلم الناس من هذه الطقطقة ومن أحوال عيدان الدومة والقندل فإن أي اختلال أو اختلاف لأحوالها يعني الخطورة على حياة السكان ويستوجب الأمر استدعاءه على الفور وبالسرعة القصوى ليكشف ويتحقق أوضاع البيت.