كارثة ملك اللؤلؤ ..

الكاتب: عبدالعزيز عمر أبوزيد
المصدر: كتاب الأسطورة في مدينة جدة

 من غير الممكن أن يذكر اللؤلؤ إلا ويحضر سريعا استعراض سيرة ومسيرة ملك اللؤلؤ وشاهبندر تجار هذه الجوهرة النفيسة في القرن الماضي حيث اللؤلؤ نادر الوجود في تاريخه الذهبي وحيث عيون الأثرياء والأغنياء تتجه نحوه ونحو أشهر مالكيه ..

 قصة ملك اللؤلؤ قد حملت كارثة بكل ما تعنيه الكلمة لثري عصره الذي تحول بين عشية وضحاها إلى تاجر خالي الوفاض بسبب نكسة اللؤلؤ العالمية ، فأطاحت به بعد ظهور الشبيه المقلد في الصناعة اليابانية ، وما عرف باللؤلؤ الصناعي فقد قلب ذلك حال  اللؤلؤ رأسا على عقب ، من المعدن النفيس إلى المعدن التعيس بعد الابتكار الصناعي الملفت ..

 تلك الكارثة عرّضت ملك اللؤلؤ الشهير في أوروبا محمد علي زينل  للإفلاس نتيجة هبوط تقييم مدخراته وأصول ممتلكاته من اللؤلؤ لديها وتعرض إثر ذلك لمطالبات طائلة ، فقد أحدث ذلك الاكتشاف انفجارا في تجارة اللؤلؤ الطبيعي شبيه بما أوقعه انفجار أول قنبلة ذرية في هيروشيما وما خلفه من هلاك للحرث والنسل وطلب للحياة ، فقد احرق اللؤلؤ الصناعي المبتكر اللؤلؤ الحقيقي الأصيل في اليابان البلد المتحفز نحو البدائل الصناعية المثيرة في كل اتجاه وصولا إلى تقليد للؤلؤ الطبيعي بصورة مذهلة ومقدرة فائقة لا تمكن من يتيح الفرصة لبصره إمكانية التفريق السريع بين ما هو مقلد بسعر زهيد جدا كونه صناعي وغير طبيعي وبين ما هو لؤلؤ طبيعي من إنتاج محارة البحر التي يتغنى بها الشعراء والمبدعون ويصف جمالها العشاق والحالمون والمفتونون ..

 تأرجح ذلك الاكتشاف المذهل الذي غزى أسواق العالم وكشف مستور  لؤلؤ المحار الطبيعي في بادئ المنافسة بين مشكك ومعارض ومنكوب جمع منها ما جمع للمتاجرة والاحتفاظ لما هو نفيس ونادر من قطعه البراقة ، لكن الزلزال الياباني لم يبق ولم يذر فقد اكتسحت كميات هائلة أسواق العالم جعلت أشكال اللؤلؤ في جميع الأسواق والمحلات والأكشاك الصغيرة على قارعة الطرقات لا يحتاج الأمر إلى كبائن عرض أنيقة ولا ديكورات جاذبة وفارهة فثمن اللؤلؤ المصنوع زهيد لدرجة أنه بات في ملتقى العامة من الناس .

ذلك الحدث الفريد احدث تداخلا طبقيا عجيبا في اقتناء قطع اللؤلؤ الذي كان محصورا على الأثرياء فقط ، وبعده أصبح للفقراء والبسطاء والكادحين من الموظفين الحق في شراء كميات من اللؤلؤ وبالأوزان المبالغ فيها إلى زوجاتهم المصونات وأصبح اللؤلؤ النفيس التي لا يقوى فقراء نساء العالم من إلقاء النظر على تشكيلاته وتقليعاته إلا في حالات ضيقة عند مشاهدة إمرأة من بنات الذوات وأكابر القوم كبنت شاهبندر التجار بمصادفة عابرة أو في احتفال عام تنثر بعد الناثرات عبارات الوصف البليغ لتحفة اللؤلؤ والألماس التي اختارتها للارتداء ..

 لم يعد ارتداء اللؤلؤ كما في السابق دليل الثراء الفاحش ، فالنساء من العامة لديهم منه بحسب ما يرتدونه من ملابس وبما يتوافق مع كل صنف وشكل  ، فقد رخص ثمنه إلى حد يجعل شراؤه متاحا للبسطاء وأصبح متابعة تقليعاته الموسمية أمرأ اعتياديا لهم وباتت هدية اللؤلؤ بين المحبين والأصدقاء ليست أكثر من خانة  الاختيار كباقات الورود وقطع الأقمشة وغيرها مما يبتاعونه الناس لمهاداة بعضهم البعض ..

 فقد حان الوقت لأن يكون اللؤلؤ النفيس في أيدي العامة ويكون بمقدور الجميع اقتناؤه فلا يكلف الأمر سوى الذهاب إلى السوق المجاور لشراء شيئا منه وبأحدث الأشكال والمصنوعات والتقليعات لآخر موضة يشهدها العصر .. 

 وقد تركوا وباركوا للأثرياء والميسورين ما يكتنزون من اللؤلؤ الطبيعي الباهظ الثمن ولما سبق لهم من احتواء ماضيه وذكرياته في كنوز أغراضهم الثمينة والنفسية فقد ساوى الاختراع الياباني بين الفقراء والأغنياء ..

 وان كان اللؤلؤ فقد بريقه فملك اللؤلؤ لم يفقد موقعة من إعراب المكانة المرموقة في قلوب المحيطين به بعد تعرضه لنكسة اللؤلؤ الياباني فكان الإنصاف جماهيريا من بسطاء وغلابة وناس على باب الله من عجين المجتمع ومسحوقيه .. فقد  ذاع صيت شهرته من جدة إلى الهند حيث نقطة الرواج للسلع والبضائع والمحطة التي لا يتجاهلها كل تاجر له صولاته وجولاته .. والى بنوك أوروبا حيث يأخذ مكانه من له  الأرصدة الوفيرة .. 

 كان زينل ملياردير عصره في ذلك التاريخ يتحرك في تجارة اللؤلؤ من مصادرها في الخليج إلى أسواقها في الهند إلى حيث عشاقها ومهووسيها في أوروبا .. فأينما يرحل يصاحبه بريق لا يقل توهجا عن وهج وبريق سلعته التي اشتهر وبرع في تجارتها ..

 وقد صاحب ذلك التضخم في تجارته نجاح رائع في عطائه الإنساني بإنشاء مدارس الفلاح التي تقدم خدمات التعليم مجاناً في جدة ومكة وفروع لها أخرى في الداخل والخارج حتى عرفت بمفرخة تنتج القياديين والمبدعين والرياضيين والتجار .. 

 ففي غفلة من ذلك الزمن وانشغال ذلك التاجر برواج سلعته فجر اليابانيون قنبلة عصرهم التي لا يتوقعها كائنا من كان في ذلك الزمن بما لا يصدقه عقل ولا يخطر على وجدان عشاق اللؤلؤ ومن اغرب ما يمكن أن يصل إلى خيال بشر ..

 تلك النكسة قد أدارت وجه التاريخ إلى ظهره لإمبراطور له حالته الفريدة ووضعه الاستثنائي.. فقد انتكس حالة وكاد لولا رعاية الله له في حينه أن يكون ممن يطلب التعليم لصغاره بالمجان بعد لضياع مصادر تجارته وانتكاس حالها .. 

 من يصف تلك النكسة في ذلك الحين لا يمكن له أن يذهب بعيدا عن وصف حال ملك اللؤلؤ .. فقد أزاح اليابانيون بريق ملكه لتجارة اللؤلؤ وانهار وضعه مع ذبول شأن تجارته التي تعرضت للكساد ومع أفول نجومية اللؤلؤ الطبيعي كسلعة فريدة من نوعها فقد وجدوا الصناعي الرخيص بديلا لا يقبل التصديق مع مقارنة شكله المقلد بسعره الزهيد ومع رصانة وندرة الطبيعي للأغنياء والأثرياء وثمنه الباهظ فليهنئوا به ويسعدوا .. بلسان حال الفقراء  ..

 لكن دوام الحال من المحال .. فملك اللؤلؤ انتقل مؤقتا  وربما بصفة نهائية من سجل الأثرياء إلى خانة المطالبين بسدادات بنكية مؤرخة لا تقبل التأجيل والتسويف ..

 وضربت زوجة ملك اللؤلؤ حالة إنسانية أخرى تسجل ضمن نساء عصرها الأوفياء حينما قامت ببيع ممتلكاتها وأغراضها النفيسة في تضامن أنساني مع زوجها المغدور بخسائر اللؤلؤ الطبيعي أمام مد وانتشار اللؤلؤ الياباني الصناعي رخيص الثمن وشبيه الشكل .

 وما كان من البسطاء في مدارس الفلاح والمستفيدين من خدماتها التعليمية الرائدة أن يقدموا شيئاًَََََََ لحال راعي مسيرة تعليمهم وداعم مدارسهم ومن يقوم بدفع أجور مدرسيهم وإدارتهم وبرامجهم التربوية إلا المراقبة بذهول لحال ذلك الرائد ..

 لكنه سجل موقفا أكثر غرابة لمن هم حوله عندما طالبوه بالمشاركة بالإنفاق على مدارس الفلاح للتخفيف من حالة الضغط المادي والالتزامات والأعباء التي باتت تثقل كاهله .. فرفض وبشدة الخوض في تفاصيل كهذه وأدار ظهره لكل من قدم له رغبة المساهمة في ذلك العطاء الإنساني الوافر ولتاريخه الأصيل في خدمة مجتمعه وأبناء بلدته.

 وكان له ما أراد .. فظلت مدارس الفلاح تحت رعاية دعمه وإنفاقه الشخصي في ذلك الحين إلى أن فاق من عثرته واستعاد كيان تجارته شيئا فشيئا حتى عاد كما كان تاجرا له شهرته وسيرته التي يتناقلها الناس كحالة أيضا فريدة استجمعت قواها  بعد سقوط  هيروشيما اللؤلؤ  .

 ظلت مدارس الفلاح رائدة في مسيرتها التعليمية تخرج الأفواج من أبناء الوطن تشهد لمحمد زينل جودة صنيعه للآخرين بهذا المشروع الذي لم يمكن لأحداث التاريخ من طي صفحة منجزاته  ولا بنوك أوروبا من طمس معالم تجارته أمام الاكتشاف الياباني وإغراقهم لمنتجهم الصناعي المنافس الذي أبهر الناس لشبهه القريب من الطبيعي ، وحالة رخص ثمنه ووفرة عرضه في الأسواق والمراكز التجارية وتمكن الجميع من اقتنائه ، لكن مع مرور الزمن ظل الأصيل هو الذي لا يذهب بريقه ولا تذهب قيمته مها طالته الظروف وتكالبت عليه الأقدار..

  

 

Back