فرج يسر من فقر مدقع  إلى غنى طاغ .. 

الكاتب: عبدالعزيز عمر أبوزيد
المصدر: موقع المؤلف

شخصية من الأساطير ربما لا تجد من ينصفها عبر الزمان ..  لم يكن غنياً ولا ذا منصب ولا جاه ولم يتمتع بحسب ونسب يمكناه من اعتلاء أي منصة مجد ولا امتطاء بريق شهرة ..

ولم يكن فرج يسر حريص يوما على أن يكون كذلك بل كانت حياته بسيطة كأي من البسطاء المسحوقين الذين لا طموح ولا رجاء لهم وقد لا يتوفر لهم في بعض الأيام قوت يومهم فهم في عسر ومكابدة مع مشاق الحياة وظروفها القاسية فلقمة العيش هي غاية ما يسعون إليه .. لم ينتظر يوماً فرج أن يجد أمامه طوق نجاة ينتشله من حالة الفقر إلى حال آخر من الغنى والسعة ووفرة الحال فهو مهموم بالبحث عن ما يؤمن لهم لقمة عيشه حتى ينام ليلته محتسياً حاجاته من الطعام والشراب.

والذي يبحث عن سيرته ويجمع أشتات ما كُتب عنه سيجد أنفسه أمام واحدة من غرائب القصص ، فالرجل الفقير المعدم المحروم تغيرت وتبدلت ظروفه في أيام معدودات بثروة هبطت على رأسه من السماء حتى بلغت شهرته إلى العالمية كواحد من أشهر رجالات البحر والمتاجرين بالسفن والرائجين بالسلع من مشرق الأرض ومغربها حتى بات يضرب لمجيئه حساباً ولغيابه نقصاً وخللاً ، فإذا حضر تحركت أمواج البحر بظهور سفنه القادمة بحركة أمواجه وهي محملة بالسلع والمؤن والبضائع. 

وحينما يذكر اسم فرج يسر تذكر معه الكثير من أعمال الخير فهو راعي الأربطة في جدة ومكة واسمه منسوج في ذاكرة المدينة القديمة وفي وقتنا الحاضر حيث ذكرياته وسيرته المرتبطة بعين فرج يسر التي أجرى مياهها المنقطعة في القرن الثالث عشر ، فالمعروف لا يُعرّف إذا ذكرت العين باسمه ولا مجال لتعريف من هو فرج يسر ، وغنيٌ عن التعريف ما لجدة من مصاب نتيجة شح المياه في أراضيها وما كانت تعانيه من أزمات خانقة لندرة وشح مياهها العذبة إلى درجة يصعب وصفها وفي ذلك كتب المؤرخون والرحالة ورواة الأخبار بما يكفي عن وصف تلك الحالة المنهكة للمدينة وسكانها.

وسأبدأ بقصة طريفة أذكرها عن قبطان البحر الأحمر فرج يسر ففي كتاب إدام القوت في تاريخ حضرموت جاء الوصف عن حال فرج يسر كيف كان ضيقاً من شدة الفقر وأنه كان يعمل في مراكب البحر أجيراً بحسب ما تدعوه الظروف وتقتضيه أحوال البحر وتجارة السفن ، ففي أحد الرحلات كان التحوّل الهائل في حياته دونما تخطيط وتدبير وكان أقصى ما يصبوا إليه هو أجره الذي يطمح إليه كعامل أجير ، فلا يكاد يصدق أحداً ما جرى عليه من حال .. فقد كان فرج يسر شخصية طريفة ممزوجة بشيء من الحماقة والشراسة وهو ما لا يمكن أن تتنبأ بردود فعله المضحكة إذا تعرض لاستفزاز الغير وهو ما كان يحلو لأشياخ السفن فعله فهو في نظرهم من الدراويش وممن لا يؤاخذون على ردود أفعالهم عند الغضب ، وبخروجه عن طوره عند حالة الغضب يصدر عنه ما يؤنس أصحاب السفن وقادتها وكانوا يستدعون انفعاله باصطناع المواقف والمقالب التي تخرجه عن طوره فيستمتعون بحالة الانفعال التلقائي المصحوب بالأفعال والأقوال فيعيشون أجواءً مضحكة تخرجهم من بلاء البحر ومشقات رحلاته العنيدة والطويلة ..

ولكن الأقدار تنساق إلى البسطاء إلى حيث مكانهم محملة بأطواق النجاة من واقعهم المرير إلى واقع مختلف ودون أن يبذلوا من أجل بلوغه المساعي والتدابير فيتحول أحدهم إلى أغنى الأغنياء بين عشية وضحاها وفي ذلك وقبله توفيق وقدر إلهي لا يملك فيه الإنسان غير أن يرضى بحاله خيره وشره.

وهذا ما حدث لفرج يسر ففي إحدى الرحلات التي كان على متنها في عرض البحر أراد ربان السفينة كما اعتاد على فعل ذلك بأن يغصب الأجير فرج يسر وأن يخرجه عن طوره ليستحث انفعاله ويخرجه عن طبيعته المسالمة إلى الحماقة التي لا دواء لها  ليمضون وقتاً للتسلية والضحك ، فعندما رسى المركب في (سيلان) وله بها معارف فكان من عاداتهم أن لا يقلعوا إلا بعد شحن البضائع وذلك يستغرق أياماً فكانوا يخرجون للفرجة صباح كل يوم إلى مرسى (كلمبو) وهناك يحضر الدلالون الأشياء لبيعها بالمزاد فتواطأ الربان الحاضرين ليوقعوا فرج يسر في إحدى الشباك المنصوبة ، وكان المعروض في ذلك اليوم صندوقاً صغيراً من الخشب ومهترئاً من أثر قِدمه  وكما جاء في المصدر فقد اعترقت الأرض ظواهرهما حتى لم يبق منها إلا الرسوم ، إلا أنهما لا يزالان مقفلين ، فأوقعا الصندوقان عليه بتدبير منهما فأخذ هو وأصحابه يتغامزون عليه إلى أن ضاق صدر فرج يسر وسرعان ما يضيق ، فعاد إلى المركب مكتئباً  حزيناً ثم ثاب إلى رشده ورأى أن لا يرمي الصندوقين حتى يرى ما فيهما فعاد بهما إلى مخدعه وفتحهما فإذا هي مشحونة بالأوراق المالية من فئة الألف وربية بما يقوّم بعشرات الملايين فمن ذلك جاءت ثروته التي يقف فيها عند غاية من فعل المكرمات والعطايا التي اعتاد عليها وعرف عنه بذلها للمستحقين وراج عنه أنه من رجال الخير والعطاء بسخاء تحدث عنه رجال ذلك الزمان بالكثير من الثناء .

وبفضل ذلك الموقف أو الهبة الإلهية أن شئنا تفسير ذلك بدأ فرج يسر قصة الثراء كواحد من أبرز رجالات البحر وملاك السفن الشراعية في أواخر القرن الثالث عشر الهجري التي تخوض لجج المحيط الهندي لتعود محملة بالبضائع المختلفة وكان أسطوله من السفن عظيماً كمان كما يروى تناهز المائة سفينة.. فقالوا كما جاء في أعلام الحجاز : أنه احتفل بزواج ابنه فأوقد المصابيح في مائة سفينة حشدها في ميناء جدة فكانت مظاهرة احتفالية  بحرية لم تشهدها المدينة في تاريخها الطويل.

 وكانت سفن فرج  كما تروى المصادر تنطلق في عرض البحر من ميناء جدة محملة بصرر الذهب إلى الهند لتبتاعها هناك وتعود محملة بما يحتاجه أهل الحجاز كله بل وغير الحجاز من أنواع البضائع حيث كانت الهند في ذلك الزمان هي مخزن العالم وسلة طعامه .

فرج يسر الفقير- الذي أغناه الله في ليلة وضحاها كان له الكثير من أعمال الخير التي تسجل بماء الذهب من فرط أثرها على سكان جدة من ذلك أنه تبنى مشروع انقاذ مدينة جدة وسكانها من حاجة المياه وتخليصهم من معاناتها الدائمة مع المياه الشحيحة ونحج في ذلك فعلا بمعاونة أهل المدينة وتجارها بإعادة سريان المياه للعين الشهيرة قديما والتي سميت باسمه (عين فرج يسر) حيث كان الناس يعتمدون على مياه الصهاريج الناتجة عن مياه الأمطار وقصة العين بدأن بأن  أمر السلطان الغوري أحد حكام المماليك ببناء عين تصل إليها المياه من خارج المدينة وتحديداً من وادي قوص وذلك في القرن العاشر الهجري..

وكما جاء في اعلام الحجاز فقد انقطع سريان مياه هذه العين بسبب عطب تعرضت له مجاري العين مما أدى إلى توقف ورود المياه إلى جدة وتسبب ذلك في أزمة عانى منها سكان المدينة وزوراها .. إلى أن أخذ فرج يسر زمام المبادرة وسعى مع سكان المدينة لإعادة جريان الماء مرة أخرى إلى المدينة.

وكما جاء في موسوعة تاريخ مدينة جدة " في سنة 1270 هـ قام تاجر اسمه فرج يسر بإعادة إجراء العين بأن جمع لذلك إعانات من تجار جدة وموسريها  وهو بذلك المساهم الأكبر لذلك سميت العين باسمه وأياً كانت مساهمة التجار فإن قيام فرج يسر بالتصدي لهذا الأمر هو إنجاز كبير يدل على همة عالية وينبع عن نفس عظيمة وهو أمر لا يتصدى له الا العظماء ".

وجاء في اعلام الحجاز بأن فرج يسر اسم يدل على أنه مولى فلقد كان الناس في الحجاز يطلقون الأسماء الجميلة على عبيدهم وجواريهم تيمناً بهم فيسمون الرجال بأسماء مثل : فرج وجوهر وألماس وياقوت ومسرور وسعيد ويسمون النساء بأسماء مثل : بشرى ومبروكة وسعيدة وما إلى ذلك .. فاسم فرج يسر يدل على أنه كان مولى ابن مولى وهذا لا يحط من مقامه في نظري ولا في نظر العقلاء والمنصفين فإن كان فرج يسر مولى فإن عماله العظيمة كان قد رفعته إلى مقام الأسياد والعظماء من الرجال الذي يذكرهم التاريخ بمداد من ذهب .

وقصة فرج يسر لن تنتهي إلى هذا الحد من الغرابة من فقر وضيق إلى غنى ومقام رفيع وصاحب يد بيضاء على كل أهالي المدينة بتبنيه التصدي لأزمة مياهها المهلكة والتي لم تذكر التاريخ مساحة من الزمن إلا وكان لسكان المدينة ضيماً فيه وألماً من عنائهم مع هذه الأزمة.

فقد عاد فرج يسر في آخر عمره حيث كان فقيراً ولم يعرف أحداً من السكان كيف ألّمت به خسارة محدقة أعادته الى سيرته الأولى فقيراً يبحث عن لقمة عيشه ولم تذكر المصادر ذاتها التي حفلت بمنجزاته وأعماله الخيرة ومساهماته الإنسانية الوفيرة ما أصابه من سوء حال أحاق به إلى فقدان أمواله ونفوق تجارته .. ولا يعرف أحداً كما في أعلام الحجاز ما أصاب الرجل الأصيل وصاحب الأيادي البيضاء من ظروف قاسية قد غابت عن سيرة كبير رجال البحر، وكل ما ذكر أنه قد عانى في آخر عمره من حياة الفاقة والمرض إلى أنه قضى الله نحبه ورحل عن هذه الدنيا إلى الرفيق الأعلى.

 

 

 

 

Back