مُنقذ المدينة ومُتعس سكانها

الكاتب: عبدالعزيز عمر أبوزيد
المصدر: كتاب الأسطورة في مدينة جدة

 

 

جدة أم الرخا والشدة .. هي المدينة التي جمعت على بساطها البحري بين ما تلاقيه ويعانيه سكانها من مصاعب ومكابدة لظروف الحياة وبين ما يستشعره زوارها وأبناءها ومحبيها من دفء ورخاء يلفّهم به الحنين في أجواءها الفاتنة .. فبين الشدة والرخاء مساحة تطوي شقاء العيش وشظفه إلى حياة رغدة هانئة ..

 

وانطبق الحال على شخصية ترجمت مثلها الدارج على أرض الواقع ، فقد تولى شأنهم من لا يفرّق ببطشه وقسوته بين حبيب وعدو ، فجمع بين الأمن من الأعداء وبطش الحماة والحكام ، وهو من جلبته المدينة بدعوات أهاليها لينقذهم من أطماع الطامعين وكيد المعتدين فجميعهم عنده سواء لتنفيذ مطالبه والرضوخ لأوامره والامتناع عن نواهيه ، والويل والثبور لمن يتعثر تحت أي ظرف عن قراراته الصارمة فالمصير سيكون حياته بأزهد الأثمان .. فالفارس الهمام الذي عُقد عليه آمال الخلاص من الشدائد والكربات هو ذاته من أذاقهم مرارة الألم ببطش حكمه الجائر ، فكان من مبالغة حزمه وشدته يجمع بين اليسر والعسر في كل الأوقات فلا يعرف غير لغة القسوة والبطش  في السلم والحرب ، وعند السراء والضراء ، كلها سيان تحت بلاط حكمه ، فوقع أهالي جدة  تحت الذي يسبق عنفه رحمته وأصبحوا في قبضة السياف الذين يسلط سيفه المسلول ولا غمد له في وقت الرخاء والشدة  ..

 

ومن غير الممكن أن نتحدث عن أساطير المدينة دون العروج على شخصية الأمير حسين الكردي كحالة خاصة شهدها تاريخ المدينة .. فهو من يعود له فضل بناء سور جدة الشهير الذي حماها من الطامعين والمتربصين لخيراتها ، فعلاوة على بأسه وصلابته كانت علاقته بهم تحت ظرف لا يسمح لأحد منهم بحالة التقاط الأنفاس .. فلم يشهد التاريخ له مثيلاً كما تروي الحكايات وتجبر قارئ تاريخ المدينة على التوقف عند منجزاتها المشهودة وكحالة استثنائية خاصة جمعت المدينة بين طرفي نقيض .

 

وقد تمكن من تطويع  المدينة تحت قبضة سلطته الطاغية ، وأناخ  بجبروت أمره جميع رجالها لبناء سور المدينة العتيد  ، فسخّر الجميع ولم يستثنِ منهم أحداً أكابرهم قبل ضعافهم وتجارهم قبل فقرائهم أعيانهم وكادحيهم ، فكلهم سواء عنده كما تذكر الروايات ، فالكل طوع أمره وخوفاً مما قد يسفر عنه غضبه الذي لا يعقبه استرحام من بأس شديد ، فقد يدفن أحدهم حياً أمام عامة الناس في موقف مشهود عاشه الناس حقيقة وليس من باب المبالغة في الوصف .

 

فقد حدث فعلاً ذلك مع أحد البنائين المغلوبين على أمرهم  عند تأخره عن المجيء لإنجاز مهمة عمله اليومي الشاق فأمر بدفنه حياُ أمام الناس لأنه تأخر عن الموعد المعهود لكل البنائين ، وفي ذلك عقاباً نفسياً مؤلماً لكل سكان المدينة فلن يبعد عنهم شبح تكرر الحالة ذاتها بتنفيذ حكم الموت عليه بذات المشهد إذا تأخر أو تخلف أو أهمل أو تقاعس في أداء واجبه ، فالعمل في بناء السور جاء رغماً وجبراً بأمر الأمير الكردي شارك الجميع صاغراً عن كابر ، يخشى كل منهم مواجهته في موقف يخسر فيه حياته لأبسط الأسباب وأيسر الأمور  . 

 

الأمير حسين الكردي جاء ليحكم جدة بأمر الحاكم المملوكي قانصوه الغوري لما كانت تعانيه من أطماع الغزاة والمعتدين فعمل على بناء سور جدة في العام 915 هـ( 79) وفرض على الجميع العمل في البناء حتى أتم  بناء سورها الشهير في أقل من عام .

 

فقد شارك الناس في بناء سور المدينة التي أحبوها قسراً تحت وطأة سيف الكردي وهم المرتبطين بعشق تراب مدينتهم التي تعاني احتمال الغزو والنهب وخطر الاستيلاء الكامل لكن الأمير الكردي جردهم من ذلك الشعور بسلطان حكمه وقسوة تعامله وهم معه مشتركين في رغبة الذود عن مدينتهم والدفاع عن ثراها ولكن كان للكردي حالته الخاصة التي لا تنظر لمحكومية بغير سلطان الأوامر ومرارة الإذعان والخضوع وكأنهم عسكر مجندون في جبهة القتال ، فإن تراجع أحدهم و تقاعس يُنزِل فيه حكم الإعدام بدم بارد ، ويعتبر ذلك  في حكم الخيانة العظمى وقد كان ذلك سارياً على سكان جدة جميعاً دون استثناء حتى بلغ ببنّاء بسيط نفّذ فيه الإعدام بالدفن حياً  دون رحمه لتأخره عن المجيء ودون سؤاله والتحقق من وضعه هل كان مضطراً ومرغماً أو مهملاً متقاعساً عن قصد وعدم اكتراث.

 

ذلك العامل الذي سجّل حالة إنسانية لا ينساها الناس في سجلّ الأحداث الجسيمة فمدفنه تحت السور الذي كان يسعى لبنائه مع رفقائه النبّائين كان مثيراً لشفقة الناس ومحل بوحهم من ظلم ما شهدوه من حكم الكردي فإن ذُكر الكردي وقسوته يُذكر البنّاء الذي ظُلم بحكمه الأرعن  المتسرع .. فهو مدفوناً إلى يومنا هذا تحت سور المدينة ولم يتمكن أحداً من ذويه بطبيعة الحال من إخراج جثته من تحت بنيان السور الضخم بكتله الحجرية فأصبح مضرِب المثل في التضحية والظلم في زمن اشتدت فيه الكربات واستحكمت فيه المصاعب والشدائد.

 

وكما جاء في الجواهر المعدة في فضائل جدة  " أن الأمير الكردي كان ظلوماً غشوماً يسفك الدماء وينصب أعوادا للصلب والشنق وأقام جلادين للتسويط والضرب وقد أنجز بناء السور كاملا في عام واحد وأحكم نصب أبراجه وقد هدم كثيراً من البيوت مما يقارب موضع السور واستخدم عامة الناس في حمل الحجر والطين حتى التجار وسائر المتسببين وضيق على البنائين فيحكى أن أحدهم تأخر قليلاً عن المجيء فلما جاء أمر أن يُبنى عليه حياً في جوف السور أي داخل السور من شدة تسلطه وجوره ونفذ حكمه على الرجل المغلوب على أمره دون أن تأخذه به رحمة ولا هوادة" .. ويتابع : "أن الأمير حسين الكردي مازال يقتل ويشنق في جدة بغير حق حتى كان نهايته بأن يؤخذ مقيداً بالغلال من مكة إلى جدة بأمر من السلطان سليم وقد ربط في رجله حجر كبير واغرق في بحر جدة فأكلته الأسماك بعد أن كان من الأملاك وتفرق في البلاد جنده وأعوانه بدداً". (80)

 

ورغم أنه كان مدافعاً صلداً وأميناً على خيرات المدينة فقد أنجز مشروعاً تاريخياً كان له الفضل في حماية المدينة من أطماع الغزاة إلا أنه كان في ذات الوقت أقسى من المستعمرين المحتلين في تجبره وتسلطه وبلا إنسانية وحدث البنّاء ظلّ مدوياً إلى يومنا هذا ،  تجعل قارئ تاريخ المدينة يدرك أن سكانها قد تولّى أمرهم من لا يرحم ولا يُمهل في سرعة تنفيذ أحكامه .. فقد عمل الجميع لبناء السور مرغمين كارهين رغماً عنهم وهم يدركون أن في ذلك الخير العميم لهم وببنائه يُؤمنون من الأطماع والهجمات الغازية من العداة لكن قسوة الكردي وبطشه وجبروت تسلطه جعل من انصياعهم تحت حكمه ألماً مماثلاً  وعبئاً مُضافاً .

 

لم تكن علاقة سكان مدينة جدة بسور المدينة الذي يطوق جميع أرجاءها علاقة اعتيادية وصامته كما هو علاقة أي مجتمع بمادة البناء  السائدة في جميع مبانيها .. فسور المدينة الذي تم تشييده بالأحجار المنقبية المعروفة في جدة كمادة بناء أساسية وكان على الدوام هو محط تفاؤل وارتياح من أي هواجس قد تنال من تفكير السكان سواءً من أطماع الغزاة المتربصين لخيراتها من العالم الخارجي كحملات الأوروبيين المتتالية عبر التاريخ القديم لاحتلال جدة والسيطرة على ثروتها الاقتصادية ومينائها الإسلامي الذي يربط الشرق بالغرب أو لدور سورها الحيوي في حماية حاراتها من شر اللصوص المتربصين بخيرات ساكنيها من الأثرياء والتجار وكبار الأعيان وبالحركة الدائبة في أسواقهم العديدة ، فالسور هو صمام الأمان ودرعه الصلب الذي لا يُقهر .

 

فكانت أبواب السور الأربعة تقفل ليلاً بعد مغيب الشمس مباشرةً ، فلا يتمكن الخارج من المدينة والداخل إلى أراضيها من عبور أبواب السور المؤصدة إلا بتصريح عبور وبتشديد لا يسمح بحدوث اختراقات أمنية ، فإذا حلّ الظلام بعد مغيب الشمس يبقى من في الداخل دون الخروج  ومن في الخارج دون الدخول وهو نظام دونه قد تزهق الأرواح لما عليه من المخاطر وبذلك تنام المدينة ليلها الهادئ في رحاب دفئ الأسرة الواحدة نائية بنفسها وسكانها عن أرق التفكير وهاجس تربص المعتدين ومكائدهم .

Back