جماعة ( رمينا ) 

الكاتب: عبدالعزيز عمر أبوزيد
المصدر: موقع المؤلف

من غير الممكن أن توجد إدارة حكومية ولا يكون في رصيد تاريخها أمثال ( عم جابر ) و (عم رده ) وغيرهم بين فئة العمال والمستخدمين وبسطاء من طين المجتمع ومسحوقيه 

 ذلك العامل البسيط هو من يجلب الابتسامة للآخرين بينما هو في حقيقة حاله يعاني من حالة غريبة جدا لم يفسر لنا أحدا أسبابها بصورة مقنعة ويطلقون عليها  ( رمينا )  وعلى من يعرفون بها قوم أو جماعة ( رمينا ) 

 فإذا تحرشت بأحدهم رمي ما في يديه فسوف يفعلها لا محالة  أيا كان ما في يمينه   من أشياء ذات الوزن الخفيف كصحيفة ورقية أو قطع بلاستيكيه أو ذات وزن ثقيل كشاشة كمبيوتر أو كرسي أو جهاز محمول فقط على المحيطين به أو احدهم التلويح باليد أو بالصوت بطلب الرمي وبعد ثوان قليلة سيستجيب لان الحالة تكون قد تملكته وسيطرت على أعصابه وإحساسه أو أعصابه وأحاسيسه معا ويكون بعدها ما يكون من تصرفات لا إرادية تصرف عنه ومقاطع مضحكة ومسلية للمتواجدين بالمشاركة أو المكتفين بمشاهدة ما يحدث عن بعد خشية الإصابة بنيران صديقة لو قذف ما في يده على أحدهم بإيعاز من البقية  

فيضحك الآخرين رغما عنه ويلتفون حوله في معظم أوقات فراغاتهم ليمارسوا معه حالة رمينا  

 وهم بسطاء و على سجيتهم وفطرتهم الأولى ، كأن كل  منهم يمتلك  ماردا داخل قمقمه  يحقق لمن حوله أغلى طلب يبحثون عنه بإثارة حالة من الضحك المفقود في حياتهم وينقلهم ذلك إلى أجواء لا تلك المدينة بكل أضواءها وبهرجتها وفعالياتها منحهم إياها  فغلبت بمد الحياة المادية لمحيط غلافها الجوي فأبعدت جيران البيت الواحد عن التواصل الحميم وأسكنت في داخلهم غربة المكان وفتور العلاقات وهجير المسافات 

 لذلك وجدوا في هؤلاء مجالا لإحراق عناءهم في كل لحظات التفاف نحوه وحول نقطه تواجده وبمجرد أن تصيح في وجهه بريمينا يقذف كل في يده أيا كان دون إدراك ولا دراية فإذا كان عامل شاي أو قهوة قذف بها في ساحة من هم أمامه ضاربا عرض الحائط لأي نتائج قد تترتب عليه وتصيب من هم أمامه والكل يقدم له شديد العذر مع انصياعه التام لما يمارسه عليه الآخرون من شغب دعابي ثقيل 

 وهي ظاهرة تنتشر بين الفئة الدنيا من الموظفين وبحكم موقعهم المتدني وظيفيا يستمرئ على زملاؤه ممارسة مزحهم الثقيل برضا وأحيانا منهم  من يكون سعيدا باختلاق هذه الأجواء ورغم سؤالي وشغفي لمعرفة تشخيص هذه الحالة إلا أنني لم أجد وحتى وقتنا الراهن تفسيرا علميا لها غير عادة ترتب معه منذ الصغر وتنشأ عليها وأصبحت متلازمة في سلوكه كنوع من الاستجابة الشرطية كما يسميها علماء النفس عند ردود الفعل التلقائية واللااردية من التصرفات والأفعال 

 وتحرش الآخرين به وإثارة هذه الأجواء لإيقاظ الحالة الهستيرية بداخله فيها فيضحك من هم حوله بقبول من الجميع وعدم ممانعة أي منهم إلا إذا زاد الحال إلى مرحلة من التحقير والاستهانة بشخصه أما على سبيل الدعابة فتتعالي الضحكات التي تحيل الأجواء الراكدة حيوية ضحك نادر وإلى كسر جمود روتين ساعات الدوام اليومي 

 وكان العم جابر في جريدة البلاد حالة فريدة من نوعها ببساطته وبشاشة تعامله مع زملائه لكن الحال ازداد وأصبحت أسياب الجريدة إذا مر بها العم جابر تستحيل إلى مهرجان من الضحك اليومي ويستمتع البعض بفرط حالة الاستظراف لسلوكه أو لحالته السلوكية عندما يستفزها لخروج بانفعالات مفاجئة تصدر عنه حتى يغشاه إرهاق يؤلم بعض المشفقين لحاله

 وهذا ما دفع المدير العام لاستصدار اغرب قرار بعدم ممازحة العم جابر استرحاما لحاله من بعض العابثين بإنسانيته وطبية قلبه 

 عم رده حاله لا يقل عن حال العم جابر فعم رده أساء بعض الموظفين لحالة الدعابة التي يتركها والأجواء التي يضفيها فزادوا في جرعة المزاح إلى حالة من تجاوز الخطوط الحمراء فذات يوم كان العم دره يحمل كوب الشاي الصباحي لتقديمه لسعادة المدير وبينما كان المدير يتحدث مع زملائه متابعا لسير العمل وأدائه أشار صعلوك من ثقيلي الدم للعم جابر مرددا له رمينا رمينا وما كان من العم رده إلا سكب كوب الشاي الساخن على ظهره وهم في معمعة اندماجه في الحديث فكظمها في نفسه على من يتجاوزون حدود المزاح المشروع إلى قلة الأدب المؤذية لفراش الإدارة فذهب إلى منزله واستبدل ثيابه بعد أن دهن أجزاء من ظهره بمرطبات تخفف عنه لسعات كوب الشاي وعاد على الفور ولم يؤجل موشحات التقريع والتأديب لكل من أساء أدبه وتجاوز حدود احترامه إلى هذا الحال المتردي من التعامل مع فراش المدير العام 

 كنت شخصيا اعد العم رده من أجمل علاقاتي لفرط حبه للعمل ولإنسانيته الشفافة ومحبته للآخرين وذات مرة سألته عن انطباعه لبعض الظرفاء ومن يزيدون من ممازحته وملامحه لا تبدي رغبة قبولهم واستلطاف حديثهم فكان رده بليغا وشفافا نحن في أحوج ما نكون إلى أخذ دروس في التراضي والتصالح مع النفس والآخرين ولو زاد جورهم وتعديهم فهو حكيم في وظيفة فراش عاصر حروب وفتن عاشتها البلاد حتى توحدت وانضوت تحت الحكم السعودي فقد روى أنهم في زمن مضى كان يخفون ما يملكون من مجوهرات وقروش ذهبية في أحشائهم خشية وقوعهم أثناء السفر والترحال في قبضة قاطعي الطريق حيث يسلبونهم كل ما تقع عليه أيديهم وأعينهم ويتركونهم في العراء حيث لا ملجئ ولا سبيل غير الشكوى للخالق تعالى على يد إلى حد قبولي لكل ما يصدر عنه من أحكام

 هو لا يلتفت لكل من يسيء إليه وينسى مع صبيحة كل يوم جديد ما دار قبله من إساءات وأخطاء لكن أصعب ما مر عليه من مواقف كان ضحيته طفله الرضيع فقد ألقى به بدفعه قويه على باب حجرة المعيشة أثناء مشاهدة برنامج للمصارعة الحرة التي يشاهدها بإثارة وشغف لكنه اقله عن مشاهدها في حادث كاد يودي بحياة صغيره في كان احد المتصارعين يلوح  بأحد يديه مهددا بضرب الآخر فما كان من العم رده ألا توجيه دفعه المباشرة لصغيرة وتم نقله إلى قسم الطوارئ في المستشفى وأجريت له عملية سريع بوضع ست غرز لضم الشج الذي أصاب رأسه من الحادثة المؤلمة التي لم تشفع دموع العم ردها من غسل آلامها حتى اقلع عن هواية مشاهدة المصارعة المحببة إلى نفسه وإلا ابد الآبدين 

 

Back