حكايات العطارين في جدة القديمة - المدينة

الكاتب: أ.د.عبدالرحمن العرابي
المصدر: جريدة المدينة

سعدت كثيراً واستبشرت خيراً عندما أهداني الأخ الكريم عبدالعزيز عمر أبوزيد نسخة من كتابه المعنون بـ (حكايات العطارين في جدة القديمة ) وأسباب سعادتي واستبشاري بالكتاب كثيرة وعديدة أولها وأهمها أن الكتاب أن الكتاب يعتبر من الكتب التي تسجل تاريخاً لظاهرة اجتماعية في فترة زمنية محددة مما يدخله في إطار الكتابات التاريخية والتاريخ هو تخصصي المهني وعشقي المعرفي . وثاني تلك الأسباب التي أفضت إلى سعادتي أن عنوان الكتاب يوحي بمعالجته لشريحة اجتماعية من شرائح المجتمع الجداوي في زمن تاريخي سابق وهذه المعالجة أي تناول قضايا وظاهر تاريخية اجتماعية نفتقدها كثيراً بكل آسى في كتاباتنا التاريخية وخاصة المعاصرة.

 

فالغالب ــ كما يعرف المتابعون ــ على كتاباتنا التاريخية قصرها الدراسة والتحليل للمغيرات السياسية في تاريخينا العربي وخاصة الحديث والمعاصر مع إهمال شبه كامل لأي متغيرات اجتماعية أو فكرية ثقافية أو اقتصادية حدثت موازية للأحداث والوقائع السياسية . علماً بأن المدرسة التاريخية المعاصرة شهدت تطوراً معرفياً ومنهجياً هائلاً ، وكنتيجة طبيعية للتراكم المعرفي الإنساني طوال الفترة الزمنية السابقة تعددت المناهج والرؤى والمدارس التاريخية في تعاملها مع أحداث التاريخ الإنساني  في حركته الدائمة وسيرورته المستمرة . فالمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية أو الفكرية ليست أقل شأناً في معرفة حياة الأمم وتطورها من الأحداث والمتغيرات السياسية، مع ذلك تبقى المكتبة التاريخية العربية قاصرة عن مجاراة المكتبات التاريخية الأخرى.

 

لذلك من عنوان كتاب الأستاذ أبوزيد قلت لنفسي هذا كتاب آخر يضاف إلى الثغرة الكبيرة في المكتبة التاريخية العربية عسى أن يأتي يوم تُسد كتب أخرى مماثلة اتساع الثغرة.

 

كتاب حكايات العطارين في جدو القديمة رغم صغر حجمه الذي لم يتعدّ المائة وتسع وثلاثون صفحة من القطع الصغير يتناول بطريقة أخّاذة ومنهجية صادقة حياة العطارين كشريحة من شرائح مدينة جدة الاجتماعية في كينونتها كشريحة قائمة بذاتها وفي طبيعة مهمتها وفي تفاعلها مع بقية شرائح المجتمع الجداوي في فترة زمنية ليست بعيدة . وقد أحسن المؤلف في اتباع منهج تاريخي حديث معاصر يشهد ازدهاراً معرفياً في المؤسسات والهيئات التاريخية والأكاديمية في عالمنا المعاصر وهو أسلوب التاريخ الشفهي الذي يعتمد على استخراج المعلومات من مصادرها الأولية المعايشة لأحداث والوقائع والظواهر المدروسة عبر الحوارات والمقابلات المباشرة فقد قام الأستاذ عبدالعزيز أبوزيد كما يذكر في كتابه وكمل تؤكد بعض صور الكتاب بعقد حوارات ولقاءات شخصية ومباشرة مع بعض العطارين وأصحاب الشأن من المعمرين الذين عايشوا بأنفسهم كثيراً من حياة ومهنة العطارة وتعامل المجتمع الجداوي معها.

 

والحق أن قراءة الكتاب إضافة إلى كونها زاداً معرفياً فهي مشوّقة وثرية، فالعطارون في الزمن الماضي لم يكونوا كما يتبادر إلى بعض أبناء الجيل الحالي مجرد تجار لبيع وتجارة البهارات والعطور بل كانوا إضافة إلى ذلك جزءً هاماً من حياة المجتمع الجداوي وغيره طبعاً في توفير الرعاية الصحية لمحتاجيها بالوصفات المتخصصة لبعض الأمراض والمشاكل الصحية العارضة التي ــ أي الوصفات ــ تتكون غالبها من الأعشاب والعطور.

 

وقد كان المجتمع الجداوي مثل غيره من المجتمعات العربية يعتمد على العطارين كثيراً في معالجة معاناته الصحية وقد استمر هذا الوضع أي الاعتماد على العطارين في الوصفات الطبية إلى ما بعد ظهور الطب الحديث في المستوصفات والمستشفيات وانتشار الصيدليات، بل أن عطارة جدة نافسوا الصيادلة في توفير الدواء حتى لا يخسروا مكانتهم الاجتماعية وهو ما يشير إليه المؤلف بوضوح حيث يقول :" ومما يؤكد تكاتف العطارين تجاه الوضع الجديد محاولاتهم لإبعاد المنافسة ولو المؤقتة عن محلاتهم ومسايرة التطور السريع في انتشار الصيادلة وذلك بشرائهم من الصيادلة بعض الأدوية البسيطة التي بدأ الناس يتعرفون عليها وطبيعة استخدامها في الحالات اليومية العارضة وهي أدوية لا يشترط صرفها بموجب وصفات أطباء مستشفى الحكومة بجدة وقام العطارة بعرضها في محلاتهم لتكون من ملحقات وصفاتهم الشعبية كتأكيد لتطور وصفاتهم".

 

ومماسة العطارة في السابق كان لها كغيرها من المهن والحرف شروط ومواصفات وكان للعطارين الممارسين للمهنة اهتمام كبير جداً بتلك الشروط والالتزام بأخلاقيات المهنة ليس رغبةً في التزود من المال وتكديسه كما هو حال تجار هذا الزمن بل كاونا يسعون جاهدين إلى كسب ثقة بقية أفراد المجتمع، فالأمانة والنزاهة والصدق في التعامل وحلو اللسان مبتغى وهدف تجار ذلك الزمن الصادق كسباً للذكر الحسن والسيرة الطيبة، وعطارة جدة القديمة لم يكونوا بدعاً عن بقية أبناء ذلك المجتمع الصادق ( فكان العطار منهم كما يذكر المؤلف يعي أبعاد مسؤوليته الإنسانية في ذلك المجتمع البسيط ويضع أهل حارته نصب اهتمامه بعيداً عن الأرباح الي بمقدوره تحقيقها من ممارسة العطارة والطب الشعبي بقليل من الاستغلال ويجعل من نفسه أحد أثرى الأثرياء وأغنى أغنياء المدينة التاريخية  قياساً بالأنشطة التجارية الأخرى كما يصف العطارة ممن عايشوا زمنها القديم).

 

كتاب حكايات العطارين في جدة القديمة للمؤلف الشاب عبدالعزيز عمر أبوزيد رغم صغر حجمه يذكرني كثيراً بكتاب المستشرق الفرنسي اندريه ريمون في كتابه الشيّق ( فصول من التاريخ الاجتماعية من القاهرة العثمانية ) والذي ترجمه زهير الشايب ونشرته مكتبة مدبولي في القاهرة في تشابههما في معالجة ظواهر وقضايا اجتماعية لمجتمعات عربية سابقة بأسلوب شيّق وعرض أخّاذ، ودراسات كهذه ليست سهلة رغم صغرها فقد استغرق إعداد كتاب حكايات العطارين في جدة القديمة قرابة السنتين من وقت وجهد مؤلفه وهو يستحق القراءة وتوفر في الأسواق وبسعر زهيد.

 

 

 

Back